أحدث الأخبار
الثلاثاء 19 آذار/مارس 2024
لا رحمة حتى لملائكة الرحمة…!!
بقلم : سهيل كيوان ... 16.03.2017

-جارنا مريض وهو في المستشفى ويجب أن نزوره.
ردت زوجتي- كنت سأقول لك، فهو لا يقصّر معنا أبداً، ولكن لا يليق أن نذهب بيدين فارغتين، فلنأخذ له كنافة.
قلت- ولكنه مريض بالسكري.
ردت- وهل هو الذي سيأكل الكنافة! إنها لضيوفه.
عرجنا على محل (حلويات شامية)، أخذنا كنافة ومضينا.
في مدخل المستشفى التقينا بابنة جارنا وزوجها، كانت تحمل كيساً من (حلويات الجليل)، وبانتظار المصعد الكهربائي التقينا قريباً له كان يحمل صفطاً يبدو أنه كنافة نابلسية، وصعد معنا عجوز يحمل كيساً من النايلون فيه زجاجة، إذا لم يخطئ أنفي فهذه رائحة بنزين، ولكن ما الذي ممكن أن يفعله هنا بالبنزين!
في القسم سألتُ الممرضة الكهلة المعروفة منذ عقود لأهالي المنطقة عن الغرفة التي يقيم فيها حمدان حمدان، فقالت: تقصد الحلواني؟
-لا إنه ليس حلوانياً، إنه سائق سيارة أجرة…
ردت وهي تنظر إلى كرتونة الكنافة بيدي- أنت غلطان، صار عنده دكان حلويات شرقية وغربية، إنه في الغرفة الثامنة.
في الغرفة رقم ثمانية، وجدنا عدداً من الأقرباء والأصدقاء والأنسباء والجيران وكانوا جميعهم يحيطون به، وعلب الحلوى حول وتحت وفوق وعلى جانبي سريره. لضيق المكان انتقلنا إلى قاعة الإستراحة المطلة على مشهد بيارات الأفوكادو والزيتون الممتدة على مدى النظر.
قدمت زوجة جارنا الحلوى للجميع وأشعلت مقارنات بين محلات الحلويات أيها أفضل. الجميع يأكلون بشهية باستثناء جارنا الذي تحسّر، إلا أن حرمانه لم يطل، قدمت له إحداهن نصف طبق من الكنافة وقالت بلهجة فعل أمر محببة: أنت كُلّ هذا يكفيك.
رد متعباً ومبتسماً- لن أفشّلك، من يد لا نعدمها يا رب..
منظر قطعة الكنافة الذهبي وطبقة الجبن السميكة الظاهرة على جوانبها يثير الشهية، جارنا يأكل ويقول:»سوف تزعل الممرضة إذا رأتني آكل الكنافة، إنها تعاملني كما لو كنت شقيقها، إنهن بالفعل ملائكة رحمة، يا جماعة الخدمة التي تقدمها هذه الممرضة لا تقدمها لي حتى ابنتي». فقال له أكثر من واحد- هيا فز بنصيبك قبل أن تأتي وتحرمك منها.
التفت إليّ أحدهم وقال: بصفتك شاعراً، من هو الذي كتب قصيدة للممرضات تعلمناها في الإبتدائية، نسيت اسمه…
تقصد بيض الحمائم حسبهنه، أني أردد سجعهنه..
-نعم هذه القصيدة.
-إنها لحافظ إبراهيم…
الجميع يعرفون ما هي مخاطر الدهون والسكر والضغط وغيرها،لا يحتاج الأمر مقالاً، الجميع يقرأ الزوايا الخفيفة في الصحف والمواقع، ما أن تقول عندي ضغط أو سُكّر أو شقيقة أو بواسير أو حتى سرطان، حتى يقفز أكثر من واحد لينصحك بوصفة ستشفيك بعد أسبوعين، ثم يلتفت آخر ليحثك على ممارسة الرياضة ولو لساعة واحدة في كل يومين، الجميع يعرفون أضرار الدهون والتدخين والسمنة المفرطة والجلوس الطويل أمام التلفزيون والحاسوب، وكذلك يعرفون بالضبط أي الأطعمة والخلطات المفيدة للجنس.
فضائيات لا شغل لها سوى إعادة تنمية الشعر من بعد صلع، ومكافحة القذف السريع وتكبير الحجم، ويظهر رجل تؤكد ملامحه وحركاته أنه نصّاب يتظاهر بالتقوى ويصرّ على استخدام الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة بقراءة تعج بالأخطاء لإثبات فعالية المرهم الذي يسوقه لتكبير الحجم مع أرقام الهواتف من جميع أنحاء العالم.
جاءت الممرضة، فحصت جارنا وما لبثت أن قالت مستنكرة: ما الذي حصل يا حمدان!
رد أحد أنسبائه- لم يصمد أمام الكنافة.
رد عليه أحدهم ممازحاً- أنت كل عمرك عميل وفسّاد.
-أنا عميل وفسّاد! على كل حال ما دمت عميلاً وفسّاداً فلن أبقى بينكم!
-يا رجل إنه يمزح معك..
-أنا كل عمري عميل وفسّاد! شكراً شكراً.
حبيبات العرق على جبين جاري تقول إنه مجهد، اعترفَ للممرضة: قريباتي يردن ارتكاب جريمة حلوة المذاق بحقّي.
فردت الممرضة: أنت يا عزيزي لست طفلاً، وأنتم يا سادة ويا سيدات، إذا كنتم تحبونه فلا تحرجوه، واحمر وجه الممرضة وبضيق واضح قالت: يا سيد حمدان عندما تلتزم بتوجيهات الطبيب فهذا لأجل صحتك وليس لأجل صحة الطبيب أو الممرضة، أنت لست طفلاً مفهوم! أنا زعلانة من تصرفك. ثم مضت منزعجة.
قال جاري مخاطباً ابنته: ادخلي الغرفة، وخذي كل الحلوى معك ووزعيها، لا تبقي هذه السموم في البيت، فقط اتركي واحداً للممرضة، إنها تحب الكنافة.
ما هذا الصراخ! الأطباء والممرضات والعمال وحتى المرضى يركضون باتجاه واحد في حالة ذهول، دخان أسود يتدفق من إحدى الغرف القريبة وصراخ امرأة يأتي من داخلها، يا إلهي، الجميع يحاولون الدخول لإطفاء اللهيب الذي وصل سقف المكتب وخرج من الباب، ولكن ليس معهم شيء يطفئون فيه النيران، أسطوانات الإطفاء الصغيرة أفرغت دون جدوى، هناك من تصرخ برعب من وراء الدخان واللهيب، أينها! الجميع مرتبك، لم يطل صراخ الإمرأة كثيراً، صمتت، يا إلهي، حالة رعب وفوضى وذهول، زفير النيران بدأ بالخفوت بعدما أحرق كل ما في الغرفة، ها قد نجحوا بإطفائها والدخول أخيرًا، سخام يكسو الجدران ومياه سوداء ورائحة لحم محترق.
الجميع يتحدثون عن عجوز دخل قبل دقائق عند الممرضة، سكب البنزين عليها وعلى محتويات الغرفة ثم أشعل النيران، يقولون ربما أنه مختل عقلياً، سلم نفسه للشرطة وادّعى أنها حقنته قبل أسبوعين بحقنة تطعيم ضد الإنفلونزا ومن يومها وهو مصاب بالزكام فجاء لينتقم.
-يا الله قبل دقائق كنا نحكي معها، الجميع يعرفونها، إنها إنسانة رائعة، هل يمكن لعاقل أن يقتل نفساً بهذه البساطة مع سبق الإصرار والترصد! أمر لا يصدّق، فقط قبل دقائق فحَصت السكّر لجارنا واحتجّت عليه لتناوله الكنافة.
-هذا ليس أول اعتداء، يتحدثون الآن عن أكثر من ثلاثة آلاف حالة عنف جرت ضد أطباء وممرضين خلال أقل من ثلاث سنوات.
-هذا المجتمع العسكري الذي يبرئ القتلة ويمجّد العنف، الذي لم يعد يستفزه قتل الآخر والتنكيل به، ها هو يلتف على نفسه كالأفعى ولا يتورع عن إحراق ملاك من ملائكة الرحمة، وعلى فكرة قبل أن أنسى، أنا كاتب ولست شاعراً، وقصيدة ملائكة الرحمة لإبراهيم طوقان وليست لحافظ إبراهيم.

1