أحدث الأخبار
الجمعة 29 آذار/مارس 2024
وماذا لو قال كاتب عربي: الإمارات للصهاينة؟!
بقلم : إبراهيم نصر الله ... 03.09.2020

عندما كتبت في العام 1988 روايتي «عَوْ»، في نهايات أيام الأحكام العُرْفية في الأردن، كنت أكتب عن مثقف يبيع نفسه للسلطة؛ تأخذ السلطة روحه، على طريقة فاوست، وتمنحه بعض الامتيازات: وظيفة، في وقت لا يستطيع أفضل الخريجين الوصول فـــيه إلى وظيفة، راتب جيد، وعلاوات معتبرة، سيارة، ربما، حينما كان امتلاك سيارة أمرًا ليس سهلًا كهذه الأيام، وربما بعض التسهيلات: دراسة جامعية لابن أو بنت أو أكثر في الجامعة، وسفر بالطبع، ومشاركة في الندوات باعتباره الوجه الثقافي للبلد. وهي، أي السلطة، تتيح له في حالات كثيرة أن يتغنّى بالقومية العربية، كما شاء، فالتغني بالقومية في جوهره، هنا في هذه الحالات بالذات، يعني أن لا يتطاول على أحد، فقوميته ليست أكثر في الحقيقة من تمتين لأواصر العلاقات الأخوية بين البلاد العربية! أي بكل بلد آخر على حدة. كما تتيح له أن يمتدح الوطن كما شاء، لكن الناس يعرفون أن المديح هو لوطن النظام لا لوطن الناس، وطن البشر الطيبين.
ولأن العالم كان صغيرًا، (الآن بات أصغر)، فقد كنا نعرف ما يدور في الكواليس من عمليات شراء هذا النمط من المثقفين، وكان يفضّل أن يكونوا صحافيين، ولهم أعمدة يومية، أو أن يُمنحوا هذه الأعمدة بعد دخولهم بيت الطاعة، فإن لم تكن أعمدة يومية فأسبوعية، وهذا أضعف الإيمان. الكتابة اليومية لم تكن أمرًا متاحًا للجميع، أما الأسبوعية فتحتمل التعدديّة، إلى حدّ ما، وكان في ذلك –للحقّ- ذكاء جيد لدى من يسمح ومن يمنع.
المهم، كنا نعرف كواليس الشراء؛ فمثلًا، بعضهم، وهذا أمر مأساوي بالطبع، كانوا إضافة إلى الوظيفة وملحقات التّنفيع، يحظون بمنح جانبية، كأن يتّصل سكرتير وزير ما بخياط الوزير أو المتجر الذي يشتري منه معاليه ملابسه، ويخبر الخياط أو صاحب المتجر بالزيارة التي سيقوم بها هذا الكاتب أو ذاك لانتقاء بعض الملابس، ويطلب من أصحاب البضاعة أن يضيفوا ثمنها إلى حساب الوزير.
كانوا يعتنون «بالشّياكة» الخارجية لهؤلاء، لأنهم يعرفون أنهم بحاجة إلى ذلك بعد أن تمّ تفريغهم من كل ما هو جميل في داخلهم!
كان سعد الدين إبراهيم قد نشر كتابه الشهير في تلك الفترة، وعنوانه «تجسير الهوّة بين المثقفين والسلطة»، وبالتالي يمكن اعتباره المُفتي العام لظاهرة السقوط تلك.
المهم، أن أولئك الذين باعوا أقلامهم، واشترتها الدولة، هنا وهناك في عالمنا العربي، كانوا مستعدين لكتابة أي شيء يُطلب منهم، وفي حالات «الخصام» مع دولة أخرى كنت تجد المقالات كلها في اليوم التالي تقصف تلك الدولة. رغم ذلك كله، وفي أيام الأحكام العرفية، لا أظن أن واحدًا من هؤلاء كان يجرؤ على أن يكتب مقالًا يتنازل فيه عن فلسطين أو يشتم الفلسطينيين، كان فيهم شيء عميق من مفارقة «المومس الفاضلة» حسب عنوان مسرحية سارتر الشهيرة، مع الاعتذار لها، ولذا كان يمكن، إن حدث والتقى هؤلاء مصادفة بزملائهم المضطهَدين؛ وظيفة وسفرًا ودراسة وخبزًا وحريةً، يمكن أن يتصافحوا، وكل منهم يعرف جيدًا ما في القلوب وما في الجيوب أيضًا!
اليوم، حين تقابل بعض هؤلاء تحزن لأحوالهم، حين تكتشف انعدام قدرتهم على النّظر في أعين الآخرين مباشرة، بعد أن مرت سنوات وسنوات، وثبت أن أيًّا من المحترمين لم يمُت جوعًا، وأن أبناءهم درسوا وحققوا الكثير رغم كل شيء، وإن كان رذاذ السّخط على آبائهم، لم يزل يتطاير نحوهم، كما يتطاير رذاذ التطهير داخل جوانب الأبواب الخاصة للوقاية من فيروس كورونا على كل من يعبرها.
هؤلاء المحترمون لم يكونوا الوباء، في الحقيقة كانوا اللقاح ضدّ كل الأوبئة التي خلّفت لنا أوطانًا عربية منهكة تدور حول نفسها كلما جاعت لتمضغ ذيلها دون أي نتائج، هؤلاء الذين لم يُسمح لهم أن يُحبّوا أوطانهم دون مقابل! أو يعطوا لأوطانهم دون مقابل! أو يدافعوا عن أوطانهم دون مقابل! أو يبنوا أوطانهم بوعيهم وصدقهم مقابل كفاف عيشهم وكامل كرامتهم!
كل من لم يقبض الثمن كان حبه لوطنه في موضع شكّ، (ولم يزل)، وكل من يأخذ أكثر يُوثَق به أكثر، وهذه معادلة راجتْ في دهاليز السلطة الفلسطينية أيضًا (حينما كان نهر المال يجري بين يديها)، حيث كانت تأمن جانب من يأخذ أكثر ومن يسرق أكثر، ففي لغة براغماتيةِ القيادة، تكون عين الحرامي مكسورة دائمًا، وإن كنا اكتشفنا فيما بعد أن اللصوصية الوطنية تُطوّر نفسها، بحيث تستطيع امتلاك أعين غير قابلة للكسر مع مرور الوقت!
المهم، رغم ذلك كلّه، كانت هناك خطوط حمراء، لا يجرؤ أحد من هؤلاء المرتزقة على اجتيازها.
أما المهم أيضًا بعد هذه المقدمة التي طالت، فهو أنني كنت أفكر في كتابة مقال عن تهافت التهافت الذي نراه بين بعض مثقفي «أبو ظبي»، بشكل خاص، هؤلاء الذين تفاءلنا بهم، واحتضنّا براءتهم وأفكارهم النّيرة (ذات يوم بعيد)، وراهنّا على دور تنويريٍّ لهم في بلادهم، وقد كانوا حقًا طيبين وودودين وواعدين، لكن ما هي إلا سنوات قليلة، بعد عودتهم، حتى باتوا أسوأ وجوه النظام، وأقسى مسننات آلته. ولأن كل شيء يُرى هذه الأيام، وكل واحد منهم ينضح بما فيه على الفضاء مباشرة، فإنك تجد خطابهم أكثر غلوًّا من خطابات أصحاب نعمتهم.
هؤلاء تجاوزوا مرحلة «العَوْعَوة» على مواطن هنا أو مُعارض هناك، حين امتلكوا جرأة أن يَمنَحوا أوطان الآخرين لأعتى قوة عنصرية على وجه الأرض اليوم: الكيان الصهيوني الغاصب.
كيف يجرؤ هؤلاء على الوقوف على منابرهم الافتراضية وغير الافتراضية، ليمنحوا فلسطين للصهيونية؟
وبعــد،
ماذا لو وقف كاتب فلسطيني أو عربي وقال: الإمارات للصهاينة؟! هل كنا سنسمح له بإكمال جملته، بالتأكيد لا، لأن الإمارات لنا مثلما هي لشعبها.
وماذا لو التقينا الآن مصادفة بالصنف الأخير هذا؟ هل سيحظى هؤلاء بمصافحة من أي منّا، أشك في ذلك، فحيثما ذهبوا لن يجدوا غير تحيّة واحدة، هي (تف 35) على رأي الفنان عماد حجّاج، أو ربما ما يفوقها تطوّرًا.

1