أحدث الأخبار
الخميس 25 نيسان/أبريل 2024
لا تنس أن تعقّم دماغك !!
بقلم : سهيل كيوان ... 19.03.2020

لا شك في أن البشرية سوف تجد لقاحًا للفيروس المرعب، وسوف تنتصر عليه، ولكن بعد سقوط ضحايا كثيرين وتكاليف اقتصادية هائلة، وسوف يحصل مكتشف اللقاح على نوبل للطب في هذا العام أو العام المقبل، ولكن السؤال الكبير، هل ستكون هذه التجربة فركة أذن ودرساً للبشرية، أم لا؟
بعد الأحداث العظيمة يتغير شيء ما في تفكير البشر، هذا ما تفعله الحروب عادة مثل الحرب العالمية الثانية، وما أسفرت عنه من معاهدات وإعلان عالمي لحقوق الإنسان وغيرها.
كذلك شأن البشر عندما يمرّون بتجارب شخصية، مع خطر ما، أو حتى في تجربةِ حُبٍ عنيفة. بعد هذه التجربة القاسية مع كوفيد التاسع عشر، سوف تعود البشرية بعد دفن موتاها إلى ما كانت عليه، صاخبة في أمكنة اللهو، والمطارات والمواصلات، ودور العرض وأمسيات الشعر والأفراح والمهرجانات، تشبه خلية نحل تتعرض لخطر خارجي، فتعلن حالة الطوارئ وتختفي عن الأعين، إلى أن يزول الخطر ليعود طنينها كما كان، ولكن لم لا تكون هذه التجربة فركة أذن للجميع؟ للدول العظمى كما للصغرى، وللغنية كما للفقيرة، وللأفراد والمجموعات كما للدول، ولجميع الأعراق والديانات، وللإنسان عموماً في كل مكان؟ كثيرون تذكّروا في هذه الأيام الطفل السوري الذي قال “سأخبر الله بكل شيء”، كانت كلمات الطفل أقوى من أي شعر، منذ هوميروس حتى محمود درويش مروراً بالمتنبي، ولكن البشر لم يقفوا عند كلماته، كأنهم لم يسمعوه. المؤمنون يؤمنون بأن الله يرى ويسمع ويعرف ما يجري، ولم تكن كلمات الطفل سوى صفعة للبشر كي يسمعوا ويعوا، ومن لا يؤمنون أيضاً أحسّوا بغصّة في قلوبهم، متفهمين الألم الذي أنطق الطفل بتلك الكلمات الحارقة، ولكن هناك ممن لا ينتمون إلى البشر سوى بأنهم يدبّون على قائمتين، لا تهزّهم كلمات ولا مشاهد، بل دغدغت ساديّتهم فقالوا: إن ذويه الخونة هم السبب.
لا يكفي اللاجئ الهارب من احتمال الموت تحت أنقاض بيته، أو من الذبح والاغتصاب والسحل، أنه ترك بيته ووطنه لينجو بروحه وأسرته، حتى يواجه ببشر يتعاملون معه بعنصرية وسادية، بعضهم يعتبرونه منافساً له على لقمة عيشهم وفرصة عملهم، والبعض ينظر إليه بكراهية قومية أو دينية أو مذهبية أو عقائدية وعرقية وثارات قبلية. هذا ما يواجهه معظم طالبي اللجوء، من فلسطين إلى سوريا حتى المكسيك، مروراً بدارفور وأفغانستان ومينمار وغيرها.
رفع العنصريون جدران العزل حول ملايين من البشر لمنعهم من أرزاقهم في أرض الله الواسعة، من قطاع غزة إلى مخيمات لبنان إلى الولايات المتحدة، إلى جدران أوروبا وأسيجتها في وجه من حملتهم الحاجة والخوف. هذا الإنسان المتحضّر والمتفوّق جداً، يضطر اليوم إلى أن يعزل نفسه رغم أنفه، حتى عن أبناء أسرته، فهل يتذكر المعزولون اليوم في تل أبيب أن هناك من ولدوا في قطاع غزة ولم يخرجوا منه منذ عقدين بسبب عزلتهم القسرية؟ هل يتذكر المعزولون في أوروبا والولايات المتحدة أولئك الذين عُزلوا على حدود بلادهم، وتركوا نهباً للصقيع والمرض واللصوص؟
لم نتخيل يوماً أن تعلن أمريكا حالة طوارئ إلا لخطر نووي، كنا نظن بأن فيروسا إلكترونيا فقط قادر على فعل ذلك، فإذا بالحكاية أبسط بكثير مما ظننا. لم نتخيل أن يقف نتنياهو “ملك إسرائيل” في بث خاص، ليرشد شعبه كيف يتصرف بالمنديل الورقي إذا عطس، وكيف يغسل يديه، وكيف يستعمل المرحاض! هل تذكرون تهديد قطاع غزة بمياه المجارير؟ من المفترض أن تكون هذه التجربة فركة أذن لكل البشر، خصوصاً لأولئك الثملين بخمرة القوّة والمال والسلطة، أن يدركوا بأن حضارات كثيرة وعظيمة سبقت حضاراتهم وعظمتهم، وأن يتواضعوا قليلا، وأن يدركوا أن قوّتهم وعظمتهم قد تتلاشى خلال أسابيع قليلة، كأنها لم تكن.
على من ظنّوا أنهم أسياد الأرض فاحتكروها أو يسعون لاحتكارها، أن يدركوا بأن الأرض ببرِّها وبحرها وفضائها لكل البشر، وليست لعرق دون آخر، وأن لكل إنسان نصيباً من هذا الكوكب الأزرق، ولا حق لأحد بأن يرفع جدرانا خصوصاً في وجوه الخائفين أو الجائعين أو المرضى. على هذا الإنسان السجين اليوم في بيته، أن لا يقف متفرّجاً على من يقبعون في السجون ظلماً، وعلى أناس يقتلون أو يطردون من بيوتهم وبلادهم أو يحاصرون ظلماً. على من يهدد العالم بعقوبات وحصار وبدفع الخاوة، أن يعلم بأنه لا حصانة ولا حق نقضٍ لأحد، وما من قويٍ على هذا الكوكب. أيها الإنسان في أي مكان كنت، وأنت تعقّم كفّيك بالكحول، لا تنس من لا يملكون ماء الشرب. وأنت تعقّم مقعدك وفارة حاسوبك، لا تنس الغارقين في الوحول. وأنت تدخل في عزلة مع ثلاجتك التي تحوي ما لذّ وطاب، لا تنس من يغرقون في ظلمات العواصف والبحار. وأنت تعقّم مرحاضك، لا تنس أن تعقم دماغك من العنصرية.

1