أحدث الأخبار
الثلاثاء 19 آذار/مارس 2024
الكلبة إيفانكا فرضت أمرا واقعا…!!
بقلم : سهيل كيوان ... 24.05.2018

قبل أسبوعين دخلتْ ساحة بيتي كلبة، حاولت طردها، ولكنها بعد بضع محاولات، تسلّلت إلى مخزن منخفض السقف تحت بيت الدرج، فيه بعضُ العتاد الزراعي والخردة.
قرفصتُ ودقّقت النظر في ظلمة المخزن، فالتقت عيناي بعينيها، فأسبلَتْهُما باستعطاف، وما لبثتُ أن سمعتُ أصواتاً خافتة، فأصغيت جيّداً، واتضح لي أنها وضعت عدداً من الجراء، فأيقنت أنني في ورطة، كيف أُخرجها وجراؤها بأمس الحاجة لها الآن؟!
مرتّ في ذهني مشاهد كثيرين من البشر، الذين يحاولون العثور على ملجأ آمن، من عرب وغير عرب، من أفارقة وغيرهم.
رأيت غرقى، وعالقين على أسيجة الحدود المُكهربة، رأيت أولئك الذين خانهم حظهم، فوقعوا في براثن وحوش آدمية، فنهبوهم وأذلوهم وقتلوهم. رأيت بؤس وعذاب أولئك الذين قضوا في شاحنة التبريد على حدود المجر- النمسا، بعد ستة عقود من أولئك الذين قضوا في خزان المياه على حدود العراق – الكويت.
أكثر ما يؤلم، هو العجز عن مساعدة أقرب الناس إليك، وأقصد أولئك الذين يخنقهم الحصار، لا سبيل لمساعدتهم بشكل فردي، ولا جمعيات أو أحزاب، حتى ذوو القربى يطعنونهم ويسهمون بمنع الغذاء والدواء والعمل عنهم، فقد أمسك بزمام الدول القادرة على التأثير، أناس فقدوا إنسانيتهم.
شعَرتْ الكلبةُ بالأمان بعد أن أطعمتها وسقيتها، فخرجت من الظل لتعبّر لي عن شكرها وامتنانها.
في البداية أشفقت عليها، ثم شعرت باحترام تجاهها، وهي تقوم بحركات مسرحية لتنال إعجابي، وهذا لأجل جرائها أكثر مما هو لأجلها.
دخلتُ إلى الشبكة العنكبوتية، وبحثت عن معاني حركات الجسد لدى الكلاب، وفهمت أنها تقول لي: «أنا محتاجة للطفك وحنانك، أنا ممتنة لك».
التقطت صورة لها ونشرتها على صفحتي في الفيسبوك، وكتبت بضع كلمات، فجاءت ردود كثيرة، منهم من يريد جرواً ليربيه، ومنهم من قدّم نصائح في كيفية التعامل معها، وتحدث البعض عن إمكانية الربح من بيع الجراء، بحسب صورتها، فإن الواحد من جرائها يباع بمئات الدولارات، كل هذا ولم أرَ الجراء بعد، ولا أعرف لونها، فقط سمعت أصواتها.
فوجئت من عدد الذين شاركوا المنشور في الفيسبوك، فدخلت إلى صفحات بعضهم، أكثرها باللغة العبرية راحوا يتناقلونها، وفوجئت بعناوين مثل: «هذه الكلبة في مكان خطر، لقد وضعت جراءها في بيت في مجد الكروم» «أنقذوها، واو مستعجل، أنقذوها».
ووصلتني رسائل تحوي عناوين جمعيات وأشخاص يهتمون بالكلاب والحيوانات البيتية مثل (كل حي) و(أعطوا الحيوانات لتعيش) وغيرها، دخلت بعض صفحاتها ووجدت قصصاً عن إنقاذ حيوانات، أبرزها عمليات إنقاذ حيوانات تركها أصحابها في القرى الحدودية أيام عدوان عام 2006 على لبنان، والبارز بينها هو التبرعات التي وصلت من جمعية أمريكية تحمل اسم (حيّ).
من خلال التعقيبات لدى بعض من نقلوا منشوري مع الصورة، لاحظت تلميحات بأن مجرد وجود الكلبة في قرية عربية هو خطر عليها وعلى جرائها، وشعرت بتواطؤ بعض العرب في هذا التقييم، بنفس المنطق السياسي الذي ينافق فيه بعض العرب للأجنبي، ليظهروا أنفسهم مختلفين عن قومهم، فهم معتدلون وحضاريون، وغيرهم متطرّف وهمجي.
إحدى السيدات العربيات تبرّعت مشكورة لطمأنة بعض القلقين بأن كتبت لهم تعقيبات: « يبدو لي أنه يعاملها بطريقة مقبولة، كما يبدو من دوافع دينية»، فأرسلت لها رسالة على الخاص:» شكراً على توضيحك للأمر، معاملتي للكلبة ليست من دوافع دينية فقط».
لأن رسالتها تعني أنني لولا الرّادع الديني لآذيتها، وهذا غير صحيح، وليس كل عربي غير متدين ممكن أن يؤذي الحيوانات.
أحضرتُ من مركز تجاري منتوجات خاصة بالكلاب، طعام، ومواد مطهرة لحمياتها وجرائها من الطفيليات.
خلال هذا، لم يغب عن بالي أولئك المحرومون من مياه الشرب النظيفة، ومن الطمأنينة والحدِّ الأدنى من متطلبات الحياة.
عندما بدأت في كتابة المقالة، خطر في بالي أيضاً، أن الكتابة عن كلبة مشرّدة وجرائها قد تستفز مشاعر البعض، وقد يقولون: «نحن بإيش وأنت بإيش»؟، فهناك مواضيع أهم بكثير من هذه، هناك بشر جائعون ومطاردون ومحاصرون ومعرّضون للموت، بل إن هناك من يجري تشريدهم في هذه اللحظات، وهذا كله صحيح، ولكنني للأسف ومثلي ملايين لم نستطع أن نقدم شيئاً لهؤلاء الناس، سوى الكلمات، وهم أخوتنا.
صحيح أن آلام الإنسان أعمق وأهمّ من آلام الحيوان، لأننا نفهمها ونستوعبها أكثر، ولأن الإنسان يستطيع التعبير عن ألمه أكثر من الحيوان، ولكنها في النهاية موضوعة لا تتجزأ، فأنا لا أتصوّر نازيّاً يعطف على الحيوانات الضعيفة مثلاً، وقد يشهر مسدسه ويقتلها بلا سبب، كذلك لا أتصور إنساناً يملك الحد الأدنى من الإنسانية، يقتل حيواناً أو يعرّضه للهلاك – ليس لمأكل – بشكل مقصود.
أكثر الظن أن سيارة مرت من شارع عكا صفد وألقت بهذه الكلبة إلى مصيرها المجهول، وعلى الأرجح أن صاحبها يهودي، لأنها تستجيب لبعض الكلمات العبرية، وهي محظوظة، إذ وجدت مكاناً وضعت فيه حَمْلِها، وبلا شك أن لها إسماً أجهله.
أخيراً تمكنت من رؤية جرائها، فهذه لا تشبهها أبداً، فهي ذات فروة بيضاء وعين لازوردية وأخرى عسلية، بينما جراؤها كلها سود، باستثناء اثنين أو ثلاثة مختلفين.
يا ترى، لو عرف جميع أولئك الذين قلقوا لمصير الجراء، واستعدوا لمساعدتها بأنها سود، هل ستبقى لديهم الرغبة نفسها لإنقاذها؟ لا شك عندي بأن العنصرية أيضاً تلاحق الكلاب السود، وهذا ليس اكتشافاً جديداً، الكلاب السود تعاني من عنصرية البشر تجاهها.
على كل حال، بعد شهرين أو ثلاثة، إن شاء الله، سوف أقوم بعملية تسفير لهذه الضيفة الكريمة إلى إحدى الجمعيات، بعد أن أكون قد برّأت ذمّتي منها ومن صغارها، ولكن حتى ذلك الحين، لا أدري ماذا تخبئ الأيام، وإلى أين ستصل العلاقة التي بدأت تتوثق بيننا، خصوصاً بعد أن صارت تتدلّع، وتظهر لي في كل يوم موهبة جديدة من مواهبها الجميلة، وبالمناسبة أطلقت عليها اسم إيفانكا، ويبدو أنها تقبّلت الإسم الجديد، وبدأت تستجيب له.

1