أحدث الأخبار
الجمعة 29 آذار/مارس 2024
تفو عليكم…!!
بقلم : سهيل كيوان ... 28.09.2017

يحيط ببيتي وتحته عشرات ملايين النمل، وربما مليار وأكثر، الله أعلم، وبتقديري أنني قد قتلت منها حتى الآن أكثر من مليون نملة، وبرغم ذلك فهي على عهدها، في كل صباح صيفي أرى صفوفا منها وقد أصبحت متوكلة على الباري عز وجل خارجة بجد ونشاط إلى عملها، بل يبدو لي أنها تعمل في الليل والنهار ولا تستريح أبدا، لو أنني عالِم في مختبر لرششت لونا ما عليها لا يؤذيها لأعرف هل هي النمل نفسها التي تعمل في الليل والنهار أم أنها تعمل بنظام الورديات!
أجد بعضها تحت شجرة التين، وقد انشغل المئات منها بحمل جزيئات ثمرة ناضجة سقطت، ومنها بين أزهار الأحواض، حيث ألقى أحد أولادي الفوضويين شيئا ما يمكن الاستفادة منه، مثل نواة خوخة عليها بقايا من غلاف الثمرة الأوسط، أما الفِرق الخاصة منها فأجدها على جدار المطبخ الخارجي تتسرب من ثقوب إبريز الكهرباء أو شقٍ لا تراه العين المجردة في غارات ذكية مدروسة ومنتظمة كحرب عصابات.
تدهشني قدرتها على اكتشاف حقول غذائها، فهي قد تكتشف ثمرة تين معسّلة على غصن بارتفاع خمسة أمتار، تفاجئني بِسربَي الذهاب والإياب إلى قمة الشجرة حيث الثمرة التي ابتسمت عن قطرة عسل، كيف عرفت بوجود ثمرة على هذا الارتفاع، هذا كأن تشعر أنت بوجود حبة كمثرى على شجرة بارتفاع خمسة كيلو مترات ثم تتسلق حتى تصلها، هل تشم رائحتها! هل هناك فدائيات منها تبحث عن مصادر الغذاء ثم تخبر الملكة التي تصدر أوامرها بإحضارها فورا، هل هما قرنا الاستشعار (الستالايت) يوصلان الرائحة والمعلومات الدقيقة عن الهدف!
سأخبركم بسرٍ عن النمل، سقطت من بين أصابعي حبة فول سوداني محمّصة بالملح على بلاط نظيف، لم تمر دقائق حتى وجدتُ حطامها محاطا بعدد كبير من النمل، السؤال منذ متى صارت النمل تهتم بالطعام المالح! هل نشأت أنواع جديدة منها أم صار في قدرتها تصنيع الملح وتناوله! أتابع خط سيرها أكثر من عشرة أمتار لأعرف كيف علمت بمكان حطام حبة الفول السوداني، هذا يعني بالنسبة لحجم سيقانها أكثر من ملعب كرة قدم! هل هي تموّجات صدى الارتطام على البلاط تسمعه كانفجار عظيم، هل لديها جهاز سيسموغراف!
أما الفرح بسقوط قطرات من المربى في محيطها فلا يعادله فرح، بسرعة ينتشر الخبر، يا نملات يا نملات ياعاملات اركضن قبل التدخل الخارجي واختفاء الحلوى.
أحيانا أجد عاملات منها في غرفة الاستقبال، في عملية بحث بطيئة، تتوقف كل بضع خطوات بحثا عن شيء مفيد، هؤلاء هن الفدائيات.
أكثر من مرة فاجأتها في غرفة نومي إلى جانب سريري، قلت لها: هذه وقاحة، عيب عليكن.
-لا تغضب يا سيدي، إنه غلاف قطعة الشوكولاتة وقشرة التفاح في المنفضة.
أعترف أن النمل لم تعتد على مسكني، بل أنا الذي اعتديت عليها، أنا الذي أتيتُ إلى مملكتها فحفرتُ وأقمت أعمدة وبنيت بيتا فوق أرضها وغطيتها بالباطون.
عشر سنوات والحرب مستمرة بيني وبينها، هي في الواقع ليست حربا بل عدوانا أشنه بشكل شبه يومي عليها، ومع مرور السنين أستطيع القول إنها تحولت إلى حرب إرادات وعض أصابع.
بعد عقد من الصراع أنحني لها احتراما، فهي لم تكلّ ولم تستسلم برغم كل الخراب والدمار والمجازر الهائلة التي ارتكبتها بحقها، بصراحة بت أخجل من نفسي، عندما يمر في خاطري الكم الهائل من الضحايا أشعر بالخجل.
صرت عندما أرشها بالمبيدات أتخيلها تحدث بعضها بعضا: هذا هو الوغد قد جاء، لا يريد أن يفهم أننا هنا في مملكتنا إلى الأبد، جاء المجرم الكيميائي، دعوا هذا الغبي يحاول مرة أخرى، فليحاول هذا المنحط. في إحدى المرات وإذ هممت برشّها توقفت إحداها ورفعت رأسها الكبيرة وحركت فكيها كأنما قالت لي..تفو عليك.
لاحظت أنها خلال المجازر تحافظ على رباطة جأش وانضباط ولا تترك الصفوف إلا لمسافة قصيرة جدا ثم تعود لتنتظم كأنما تموت متعانقة، ولا يلبث الناجون أن يعودوا للعمل.
جثثها تذكرني بلوحات الرسام إسماعيل الشموط، وبالسوريين في الغوطة الشرقية وخان شيخون وخان العسل وغيرها، وبالأكراد في حلبجة وبالفلسطينيين في صبرا وشاتيلا، والعراقيين في ملجأ العامرية.
حاولت إغراقها بالفيضانات، أترك المياه تتدفق من خلال الشقوق ساعات، ولكن لا تمر ساعات حتى تعود.
أذهب إلى متجر بيع الأدوية الزراعية
- أريد أقوى دواء عندك لقتل النمل…
- آه خذ هذا، إنه غالي الثمن ولكنه فعال!
عندما أدفع ثمنه، أفكر كم من الناس يجدون مصدر رزقهم على حساب النمل، (مصانع ومختبرات ومتاجر وعمالا وموظفين ومستهلكين).
في الآونة الأخيرة قررتُ تجنّب ملاحقة النمل خارج نطاق المنزل، لن ألاحقها في الحديقة والخلاء، أولا لأنه من المستحيل القضاء عليها، ثانيا لأنني بت أدرك حقها بالحياة ما دامت لا تسبب الأذى لي ولأبناء أسرتي، لن أهاجم إلا من أجدها داخل البيت، خصوصا في غرفة الاستقبال، لأنها تسوّد وجهي أمام الضيوف الذين قد يشككون في نظافة ربة المنزل، وجدت مستحضرا لا يقتلها ولكنه يبعدها.
الآن أعترف بعد عقد من الحرب عليها أنني صرت أكن احتراما عظيما لها، وتنامى لديّ شعور بالذنب تجاهها.
ليس مصادفة أن القرآن الكريم خصّص سورة للنمل، هذا شرف كبير لها، ودليل على أن الله أكرمها مثلما أكرم النحل صاحب الأفضال الكثيرة.
أعجبتني النملة التي قالت لأخواتها في الآية الكريمة:
«يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون»! وأعجبني جدا سليمان الحكيم عندما سمعها وتبسّم ضاحكا.
أيتها النملة الجليلة، ها هو نسلك يملأ الأرض ظهرها وبطنها ويشكل عشرين من مئة من الأحياء على الأرض، رغمًا عنا نحن المجرمين الذين أبدنا المليارات من أبناء وبنات جنسك، ثم سمّمنا بعضنا بعضا كما لو كنا نملًا وحشرات، أرجو أن تقبلي اعتذاري وأن لا تحقدي عليّ، وإلى المجرمين الذين قتلوا شعوبهم بالكيمائيات وارتكبوا وما زالوا يرتكبون المجازر أقول ما قالته لي تلك النملة الشجاعة.. تفو عليكم..

1