أحدث الأخبار
الثلاثاء 23 نيسان/أبريل 2024
الجائزة الكبرى في اليانصيب!!
بقلم : سهيل كيوان ... 05.08.2016

لا أذكر متى قالها لي أول مرة: «لو أربح الجائزة الكبرى في اليانصيب لأهديتك مئة ألف…بل مئة وخمسين ألفاً» وصار يكررها كلما زرته أو زارني أو التقينا حتى ولو في جنازة…
وفي كل مرة أرد عليه: يا خال، لا نريد إلا سلامتك…
فيرد وهو يومئ برأسه : أنا وعدت نفسي ووعدتك، أقسم بالله إذا ربحت في اليانصيب سيكون لك حصة كبيرة منها!
- يا خال أنت اربح أولاً، وبعدها لكل حادث حديث…
فيرد- هل تعرف لماذا سأعطيك حصة مثلك مثل ابني؟
- ليش؟
- ألا تذكر عندما بنيت بيتي! كنت تأتي مع أصدقائك لتحفر معي الأساسات…هل نسيت! ثم هل أنسى يوم كُسرت ساقي ولم يكن لي أي مصدر دخل لعدة أشهر، كيف أنسى وقفتك معي! وهل أنسى وقفتك يوم عرس (طارق)..لا لا تتعب نفسك…إذا ربحت الجائزة الأولى باليانصيب سأقسمها بالتساوي بينك وبين طارق وأخواته!
- يا خال ليتك تربح…ولا أريد منك سوى سلامتك…
-لا تتعب نفسك..أقسم بالله العظيم وبالقبلة الشريفة…أنني أتقلب أحياناً في الليل وأحسب كيف سأوزع الجائزة! أستيقظ وأحضر قلماً وورقة وأبدأ بتقسيمها! وأول واحد يخطر في بالي هو أنت، حتى قبل طارق وأخواته، أنت برأس الصفحة، إسالها (يقصد زوجته) ..تعالي قولي له إذا ربحت باليانصيب ما هي حصته!
حينئذ تقسم زوجته «وحياة هذه النِّعمة (تقسم على قطعة خبز أو أي شيء يؤكل). إنه يحبك مثل طارق…دائما يذكرك ويقول لي.. إذا ربحت باليانصيب فله مائة ألف…
فيقاطعها – بل له مائة وخمسون ألفاً…
فتقول زوجته-والله أنك تستاهلها…نيالك على خالك شو بحبك….
منذ طفولتي أعرفه كريماً، صحيح أنني ساعدته بحسب طاقتي وقدرتي قبل زواجي ومسؤولياتي، ولكنه يبالغ بما قدمته له، وفي الحقيقة أشعر بأنني أرد له هداياه منذ كنت طفلاً! كيف أنسى يوماً لم يكن مع والدي ثمن تذكرة دخول للسينما، كنت حزيناً وغاضباً جداً أكاد أنفجر بكاءً، كان يومها فيلم سبقته دعايته أطلقوا عليه (هيركوليس أبو الحجارة)..وذلك أن هرقل يتصدى فيه لنهر من الحجارة! وإذا بالخال يقف بقميصه الأبيض في باب البيت مثل ملاك هبط من السماء ويتساءل…ليش مش رايح على السينما! وكأنه جاء خصيصاً لأجلي..»تعال يا خالي.. خذ هذه الليرة واحضر الفيلم!»! كانت هذه أكبر من أي جائزة ممكن يحلم بها ولد ولسنين طويلة..
حماسه لفكرة اليانصيب كان كبيراً، وكان يؤكد أن حدسه لن يخونه، ولهذا اشترك بواسطة التزام بنكي بسحب اليانصيب أسبوعياً، وبات على قناعة أنها فقط قضية وقت وسيربح.
في يوم ما قلت له ممازحاً: أحقا أنت مؤمن بأنك ستربح! سيبك من اليانصيب، لو كنت مكانك، لألغيت الاشتراك..إحسب كم دفعت بهذه السنين!
يومها بدا وكأنه حزن وقال: على كل حال لن أناقشك كثيراً، أنا أشعر باقترابها.. وليكن واضحاً لك، شئت أنت أم أبيت، حصتك محفوظة وسوف تصلك! أما الآخرون (وذكر عدداً منهم)..لن يحلموا بقرش واحد مني…!
بعد سنين طويلة لم يعد الخال يذكر أمر الجائزة وكأنما يئس، وسررت أنه لم يعد يذكرها، فقد كان يخجلني كلما ذكرها إلى أن قال لي مرة: عشرون سنة وأنا مشترك باليانصيب، ولم أربح شيئاً سوى بضعة قروش..يلعن أبوهم كلاب أولاد كلاب…
انتهينا من اليانصيب، ولكنه انتقل إلى عطاءات أخرى … ما أن أدخل بيته حتى أرى بشاشة وفرحاً حقيقياً على وجهه، وعندما أهم بالخروج يقول لي:» لحظة لحظة…عندي طقم كحلي يليق بك، ستكون فيه مثل المشخّص، فصّلته يوم عرس طارق، ولكن لم أرتده سوى مرة واحدة، ما رأيك به!
- لا شكرا يا خال…!
- ما هو مقاسك..هيا قم وقسه…
-لا لا..أنا لا أرتدي أطقم…
- طيّب عندي جاكيت شتوي (جديد طخ) آخر موضة، شو رأيك تاخذه! وهكذا كلما زرته يقترح هدية…عندي حذاء أبيض جاءني هدية لم أنتعله، عندي قميص أزرق جديد بنصف كم…عندي ربطة عنق منقطة بالأبيض والكحلي ملائمة للمناسبات، عندي ورقة جنيه فلسطيني من أيام الانتداب خذها، عندي طاحونة قهوة قديمة..عندي طقم أقلام…
دائما عنده شيء يريد أن يهديني إياه، وصرت أتوقع هذا في كل زيارة أو لقاء، والإجابة صارت معروفة لي وله…فإما أن تكون الهدية واسعة أو ضيقة أو أقول إن لونها لا يعجبني، أو أؤجل الأمر وأتملص بشتى الحجج.
في يوم ما وعندما انتقلت للسكن في بيتي الجديد قال لي: إسمع، عندي غرسة تينة مزروعة في تنكة..خذها!
-أها تينة…أينها! قام مستبشراً فقد اتفقنا أخيراً على هدية…هناك ورود ونعناع وعطرة وفلة وغيرها حول بيته، والتينة في التنكة…
- ما نوعها؟ غزالي أم بياضي أم نورسي؟
-هذه (شخّة عصفور)، أعجبتني ثمارها من عند ابن عم زوجتي، أخذت منها عقلة..ثمارها مثل العسل…
كان هذا قبل خمسة عشر عاماً.
التينة الآن وارفة أمام بيتي، عالية ومتفرعة كثيرا، كل من يزورني في الموسم يعرج عليها لتذوّق ثمارها، ولا أحد يعرف صنفها، فهي ليست من الأنواع المعروفة، وفي بلدتنا كل صنف مجهول يسمونه (شخّة عصفور) أي أنه نبت صدفة ومن دون زارع!
عندما كان يزورني، يقترب من التينة ويدور حولها بسعادة.
قبل عام وفي إحدى زياراتي الأخيرة له في المستشفى وهو على فراش الموت، قبّلته وودعته، فقال بصعوبة…لحظة لحظة…إسمع عندي شادر..هل تريده؟
رددت مستغربا- شادر! شادر شو!
- نعم شادر لونه أزرق للمناسبات، تعلقه بالحبال أمام بيتك…
تدخلت زوجته الطيبة والدموع في عينيها…يا زلمة بكرا إذا متّ أنت سنحتاج للشادر..
- يا ابنة الحلال، أقصد بعد دفني وبعد ختمتي…إفهميني..الشادر ينفعه في مناسبات فرح أبنائه..
- طيب يا خال طيّب سآخذه.. ولكنك ستفرح معنا، ستشفى إن شاء الله ونحتفي معا…
أتذكر هداياه التي لم تنته حتى وهو على فراش الموت، فتراودني دمعة لا تلبث أن تتحول إلى ابتسامة عريضة، وأحدّث نفسي..أغلى الجوائز هي محبتك الغامرة التي لا حدود لها يا خال…

1