أحدث الأخبار
الجمعة 19 نيسان/أبريل 2024
فلسطين… ومماحي الذاكرة!!
بقلم : إبراهيم نصر الله ... 07.08.2015

إذا أراد الكاتب الفلسطيني أن يصل إلى العالم، فإن عليه أن ينسى، أما إذا أراد الكاتب الإسرائيلي أن يصل إلى العالم، فإن عليه أن يتذكر.
تلك معادلة ظالمة، نستعيدها خارج فلسطين، ونستعيدها داخلها ونحن نحلّ ضيوفا على جامعة بيرزيت، ونستعيدها ونحن نتصفح كتب أطفالنا أيضا!
في كل شيء في الداخل الفلسطيني ما يذكرك بها، ويضاعفها تلك العلاقات التي لا تبدو طيبة أبدا في واقع ثقافي متناحر.. في وطن محاصر من ست جهات، يُطلّ على ثلاثة بحار ولكن الإنسان فيه لا يستطيع أن يبلل رجليه بمائها!
لا يستطيع المرء أن يكون آمنا أبدا في أي جزء من تلك الأجزاء التي قيل إنها خاضعة للسلطة. في الحقيقة، كل شيء خاضع للاحتلال، الاحتلال الذي يستطيع أن يصل إلى أي شخص في أي وقت يريد، في أي مدينة أو قرية يريد. أستعيد صورة ابنة الصديق محمد وابنة الصديق وليد الشابتين اللتين اعتقلتا في زيارات الفجر الصهيونية؛ ويستطيع المرء أن يستعيد آلاف الحكايات، ويستعيد صورة نضال باتت محصورة في قدرة بعضهم على استخدام نفوذه للحصول على تصريح زيارة لهذا الإنسان أو ذاك، وهو يكرر عدة مرات، بلا خجل، أنه تفضّل عليهم بالتصاريح للقاء أمهاتهم وأخواتهم، أو لرؤية وطنهم. لن يتردد أن يقول: لولاي لما استطاعوا الدخول! كما لو أنه أعطاهم حق العودة، أو دسَّ في جيوبهم، هم الذين لا يملكون أي وثيقة سفر، جوازَ سفر دولة عظمى يتيح لهم الفرصة لأن ينظروا مباشرة في أعين رجال الأمن في مطارات هذا العالم الظالم.
ليست هذه قصة مسؤول واحد ممن يمكن أن يتنعّموا ويمتلكوا (قوة السلطة!) فتصريح الزيارة هو أقصى ما يمكن أن يقدّمه هو ورفاقه وإخوته اليوم لشعبهم.
لا يبدو أن هناك أي عنوان يشير إلى البحر غربا في قواميسهم، حتى في جلساتهم الخاصة. تبدو كلمات مثل حق العودة خارج قاموس السياسة الفلسطينية، وتبدو جريمة إحراق الطفل عليّ، حادثة تضاف إلى أحد عشر ألف حادث ارتكبها المستوطنون، سيحاولون إقناعك أنها لن تمر، كما لو أن أحد عشر ألف جريمة قبلها لم تمرّ!
في عام 1987 زرت فلسطين قبل الانتفاضة الأولى بأشهر، وكانت تلك أجمل زيارة يمكن أن يقوم بها إنسان لوطن واقع تحت الاحتلال! فقد كان الناس يلعبون بالجنود الإسرائيليين، ويتفنّنون في ابتكار أساليب بث الرعب في قلوبهم، ليلا ونهارا، وكان باستطاعة حتى ذلك الذي لا يملك أي بصيرة أن يرى أن الانتفاضة مقبلة، وهكذا ولد كتاب (الأمواج البرية).
في عام 2009، تكررت الزيارة، ولم يكن باستطاعة المرء، بعد عشرة أيام، أن يكتب حرفا واحدا! فقد كانت الأدوار قد انقلبت، وأصبح بإمكانك أن ترى المستوطن الفتى يترجل من حافلة مدرسية، أو عامة، ويقطع سيرا على الأقدام عدة كيلومترات للوصول إلى المستوطنة المحصّنة في أعلى الجبل آمنا مطمئنا، كما أصبحتَ ترى المستوطنين على أطراف الشوارع يرفعون لكل سيارة عابرة إشارة أوتوستوب، دون أن يعنيهم أن تكون السيارة المقبلة لفلسطينيين أو لصهاينة! وتراهم أيضا تحت مظلات مواقف السيارات على أطراف الشوارع
العابرة للمدن، ينتظرون، وهم يطلقون الضحكات، كما لو أنهم على محطات وقوف في نيويورك أو برلين، فرحين بهذا السلام!
لا يلزمك الكثير من الكتب لتحليل الواقع السياسي الفلسطيني المترهل، الشائخ، الذي يفتخر بكل أعراض الزهايمر، ويزهو بها في الداخل، وفي كل محفل دولي.
وفي واقع يبدو فيه العالم قادرا على أن يقف معك، ويدافع عنك، ويذهب في إجراءات بعيدة للدفاع عن قضيتك، يبدو الواقع السياسي الفلسطيني هو الأقل حماسة لفلسطين على سطح هذا الكوكب. وفي زمن عمّت فيه الثورات العالم العربي، ضد أنظمة شاخت ورمتنا بالشيخوخة المبكرة، كنا نرى ولم نزل، أن أكثر من عمّروا في (الحكم) هم قادة الثورة الفلسطينية! بل ويبدو أن جُلّهم قد قطعوا عهدا بأن لا يموتوا قبل أن يسيروا في جنازة الشعب وجنازة القضية، ويطمئنوا تماما أنهما (الشعب والقضية) قد دُفنا بشكل جيد ومُحكم.
تقول صبية صغيرة وهي تتلفّت من نافذة السيارة، مراقبة سيارة صهيونية تبتعد: كان المستوطنون يخافون في الماضي حين تصادفهم سيارة فلسطينية، حتى في ذلك الزمان الذي كانت القوانين الإسرائيلية تتيح لليهودي حق إطلاق النار على أي سيارة فلسطينية تتجاوز سيارته؛ أما اليوم، تضيف الصبية، فقد بتنا نحن الذين نخاف من أي سيارة من سيارات قطعان المستوطنين.
تخرج ظهرا من جامعة بيرزيت، مودِّعا أخا نبيلا طيبا هو فضل الخالدي وهو يبتسم من كل قلبه، وأنت لا تعرف أنه بعد أقل من أربع وعشرين ساعة، سيفقد ولده الجميل الأنيق ليث (17 سنة) وأن أم ليث ستمضي الليل، وهي الممرضة، محاولة مع الأطباء إنقاذ ابن قلبها، لكن 64 وحدة دم لن تكون مجدية، فقد كانت طلقة الحقد الصهيونية أقوى.
كم مرة رجتهم أم ليث أن يمنحوا ابن قلبها دمها كله؟ كم مرة بثوا في قلبها الأمل؟ كم مرة بثت في قلبها الأمل؟! فليس هنالك أحد كالأم يمكن أن يصدق الأمل حين يكون ابنها نازفا أمامها أو في غرف العمليات.
رغم ذلك كله، على إخوة ليث وأصدقائه، أن يذهبوا اليوم إلى مدارسهم ويفتحوا كتبهم التي تقول لهم إن فلسطين ليست محتلة، وإن النكبة لم توجد وإن المذابح ضد شعبهم لم ترتكب، وإن عليّ الرضيع الذي استشهد حرقا لم يستشهد وكذلك ليث.. وأن يكتفوا بلجنة التحقيق الصهيونية الفلسطينية التي ستحقّ الحقّ!
ترى ذلك وتتساءل: ماذا لو رفع أحد يده مطالبا هذا الكيان بالكفّ عن ابتزاز العالم بكلمة هولوكوست، أو لو قررت إحدى الدول الأوروبية أن تحذف هذه الكلمة من المناهج المدرسية؟!
.. هنا في هذه البقعة التي تنتمي لوطن يمتدّ بين ثلاثة بحار مأساة شاملة، سيكون أول من يدفع ثمنها حراس الزهايمر، حرّاس هذا الشلل العام المفروض على فلسطين، فلسطين التي لا يريدونها أن تشبه نفسها، فلسطين التي لم تقبل يوما أن تكون صورة طيعة لمماحي الذاكرة.

المصدر : القدس العربي
1