أحدث الأخبار
الجمعة 29 آذار/مارس 2024
1 2 3 41120
الـ مدرهة أرجوحة شوق أهالي اليمن لحجيجهم!!
30.08.2017

يحتفي اليمنيون بالمسافرين منذ القديم باحتفالات خاصة تحمل الحب والشوق لهم، والدعوات والتمنيات الطيبة بعودتهم، ويعدّ السفر للحج السفر الأكبر، لذلك ينظمون مراسم توديع الحجيج وعودتهم بإقامة “مدرهة” وهي أرجوحة يركبها الكبار والصغار وهم يتغنون بأغاني الشوق. وتسلط المدرهة الضوء على العادات والتقاليد الشعبية المتوارثة التي تتزامن مع موسم الحج، وتنطلق مع توجه الحجيج إلى المشاعر المقدسة لتتواصل حتى عودتهم.

صنعاء - يبدأ اليمنيون بتوديع واستقبال الحجاج بالفرح والابتهاج والسرور من خلال إحياء طقوس خاصة متوارثة منذ المئات من السنين ولا يزال الكثيرون يحرصون كل الحرص على إقامتها سنويا كي لا تندثر وتهمل وتنسى رغم أن الحرب غيّبت هذه العادات التي يحبها اليمنيون.
وتبدأ مراسم الاحتفال بالحجاج منذ سفرهم وحتى عودتهم وتستمر الأهازيج طوال اليوم وفي معظم ساعات الليل كما كان الرقص الشعبي وضرب الطبول (البرع) مرافقين للمدرهة وأهازيجها.
وفي مواكب توديع الحجاج يبدأ الأطفال، ومن خلفهم كبار السن، بنصب أعمدة “المدرهة”، وترديد أهازيج وأغان مختلفة، متمنّين للحجاج أن يتقبل الله منهم ويعيدهم سالمين.
والمدرهة من أشهر العادات والتقاليد اليمنية المرتبطة بموسم الحج، وخصوصا في منطقة صنعاء القديمة، ويتم تركيبها في الحدائق العامة والمتنزهات وأحواش المنازل والبساتين المنتشرة في المنطقة.
وتقام المدرهة بنصب عمودين خشبيين يصنعان من الأشجار القوية كأشجار الطلح أو أشجار الأثل، ويتم ربطهما بحبال قوية ومتينة تسمى حبال السَّلب، وهي شجيرات صبارية سيفية سميكة حادة الرؤوس، ثم توضع فوق العمودين خشبة ثالثة، يتدلى منها حبل توضع في وسطه خشبة صلبة، وقد صارت في ما بعد تصنع من الحديد.
ويظل الرجال والنساء والأطفال أيضا، يتناوبون التأرجح عليها وهم ينشدون الأغاني الخاصة بالشوق إلى الحجاج متمنين لهم الحج المقبول والعودة الميمونة طوال النهار وردحا من الليل.
ويقول الباحث علي الجمرة إن للأرجوحة دلالة رمزية، معتقدا بأن السر النفسي لنصب المدرهة في هذه المناسبة جاء من كون كل أرجوحة معلّقة في الهواء لها قانون يحكمها فلها ذهاب إلى الأمام وعودة إلى الخلف، وإذا كان ذهابها إلى الأمام يتم بالإرادة وبالفعل الإنساني عبر اليدين، مثل الرحيل إلى الحج الذي يأتي بالنية والعزم انطلاقا من قوة الدافع الديني، فإن أمر عودتها هو أمر قدري حتمي لا بد من حدوثه بقوته الذاتية، وكذلك الحاج الذي لا بد من عودته إلى أهله وموطنه وبيته.
وتؤكد الباحثة في التراث هدى الشرفي أن حركة المدرهة ذهابا وإيابا، ارتفاعا وانخفاضا، هي محاكاة لقلب وعقل من يكون على المدرهة، لقلقه على الحاج، ولوعته وشوقه إليه، ويتضاعف القلق والشوق مع حركات المدرهة وكلمات الشوق.
ويقول الباحث في التراث الثقافي الشعبي أحمد مسعد “تشهد المدرهة العديد من التقاليد، مثل: إلقاء الأدعية، الموالد، الرقصات، الأغاني الشعبية، وبالأخص أغاني المدرهة أو تغاريدها، عقر الذبائح، إطلاق الألعاب النارية، علاوة على تزيين المدرهة بكسوة تسمى كسوة الحج، وهي ملابس الإحرام يتم استبدالها بملابس الحاج نفسه، وتنشر هذه الملابس على أعمدة المدرهة مع أدوات زينته، العمامة والجنبية (الخنجر الذي يحمله اليمني على خصره) والبندقية القديمة، كما تنشر ملابس المرأة الحاجة خصوصا ملابس عرسها، إضافة إلى أدوات زينتها مثل المصوغات الفضية والذهبية وبعض الورود والريحان وغيرها”.
ويقول الحاج يحيى الوتاري ( 60عاما) من سكان صنعاء القديمة “كان لموسم الحج نكهته الخاصة حيث يبدأ أبناء الحي بالتجمع والبدء بنصب المدرهات في أحواش المنازل للنساء وفي الحارة للرجال”.
توظيف سياسي
في بداية ظهورها قبل المئات من السنين، حظيت المدرهة بشهرة واسعة في صنعاء القديمة، أقدم مناطق العاصمة اليمنية وإحدى المدن التاريخية في العالم العربي، قبل أن تنتشر في الأرياف والقرى اليمنية، حسب دراسات تاريخية.
وسعى العديد من الناشطين في الحقل الثقافي والمجتمع المدني إلى تحفيز الرأي العام المحلي والخارجي للاهتمام بالموروث الشعبي الغني في اليمن، والكشف عن وجه من أوجه الإبداع الإنساني الشعبي بتوثيق تقاليد الحجيج كتابيا، وصوتيا ومرئيا ليكون مرجعا للمهتمين والدارسين.
غير أنّ ارتدادات الحرب، الدائرة في اليمن منذ سنوات، أثّرت بشكل واضح على هذا التراث المحلي، وغيّرت بوصلة اهتمامات الناس، وشغلت الكثير منهم عن ممارسة طقوس اعتادوا عليها سنويا، مع حلول موسم الحج.
الكاتب والباحث في التاريخ اليمني، محمد الغربي عمران، قال إنّ “المدرهة، وهي مناسبة تراثية، تم، مؤخرا، توظيفها سياسيا بشكل أفقدها هدفها الرئيسي”.
ويضيف عمران، أن “المدرهة كانت ترفق، قبل الحرب، بفعاليات ثقافية يحضرها الآلاف من اليمنيين مع بدء موسم الحج، ضمن تظاهرة ثقافية لإحياء هذا الموروث، بمشاركة لافتة للنساء”.
ولفت الباحث اليمني إلى أنه “تم خلال الأيام الماضية تنظيم تظاهرة المدرهة، غير أنه جرى توظيفها سياسيا، حيث ألقيت خلالها خطابات كراهية لا تخدم الناس البسطاء”.
وهو توظيف قال عمران، إنه “لا يمنع إصرار اليمنيين على إحياء هذا الموروث على الصعيد الفردي، وخصوصا في صنعاء القديمة، حيث بإمكان المارة في أحيائها سماع أصوات البنات وهن يلعبن على المدرهة، ويردّدن أهازيجها المعروفة”.
ومضى قائلا إن “النساء في صنعاء القديمة يزيّن حبال المدرهة بالمشاقر (زهور محلية)، ويتم نصبها داخل أحواش المنازل الصنعانية وبساتين المدينة”.
„حركة المدرهة ذهابا وإيابا، ارتفاعا وانخفاضا، هي قلق الأهالي على الحاج في سفره“
ومع أن المدرهة هي موروث يمني، إلا أن “الحرب أجبرت اليمنيين على التخلي عن الكثير من عاداتهم وتقاليدهم، وحالت دون إقامة الكثير من فعالياتهم الموسمية، ومن بينها المدرهة”، وفق نبيل محمد، وهو من منطقة همدان غرب صنعاء.
وهو غياب يعتبره محمد “نتاج للأوضاع السياسية والأمنية والاقتصادية” في البلاد، حيث تغيّرت اهتمامات الناس، وأضحى تحصيلهم لأساسيات حياتهم اليومية على رأس أولوياتهم، خاصة في ظل يومياتهم المثقلة بأوجاع القتال ومرارة الفقدان”.
ارتبطت المدرهة في اليمن بالزمن القديم، أيام الحج على ظهور الجمال والبغال؛ حيث كانت فترة الحج تستمر من 3 إلى 4 أشهر، دون وجود وسائل اتصال بين الحاج وأهله، ما جعل المدرهة وسيلتهم الوحيدة لبث أشواقهم وأمانيهم له بالعودة سالما.
وتقول الأستاذة أروى عثمان رئيسة مركز “بيت التراث” بصنعاء، إن سبب ارتباط المدرهة بالحج يعود إلى كون الحج قديما كان أمرا شاقا ومحفوفا بالمخاطر، حيث كان الحاج يقضي من ثلاثة إلى أربعة أشهر في الذهاب إلى الأراضي المقدسة والعودة، ولذا كان الحاج يكتب وصيته قبل المغادرة، وكذلك يطلب المسامحة من الأهل والجيران، ومازال هذا التقليد جاريا حتى الآن.
ومن منطقة إلى أخرى، تختلف الأسماء التي تطلق على تلك الأعمدة الخشبية والأنابيب الحديدية، المنصوبة سنويا بالتزامن مع موسم الحج، تماما كما تختلف الأهازيج التي ترافقها.
ففي تهامة غربي اليمن، لا تقام المدرهة كثيرا، وتقام بدلا عنها فعاليات دينية وخطب وأشعار، نظرا إلى الطبيعة الصوفية المهيمنة على المحافظة.
ويستخدم سكان العاصمة صنعاء والمناطق المحيطة بها اسم المدرهة، في حين يصطلح سكان المحافظات الشرقية على تسميتها بـ “المدرهية”.
الأغاني والأهازيج المرافقة لهذا الموروث تختلف بدورها من منطقة إلى أخرى، وفق عادات ولهجات وتقاليد كل واحدة منها. في صنعاء مثلا يردد السكان “تواشيح دينية”، وهي أناشيد وأشعار مستوحاة من التراث الزيدي (منسوب إلى الإمام زيد بن علي).
وليحصل كل شخص على دوره في المدرهية يخضع الجميع لنظام خاص توارثه اليمنيون عبر الأجيال، حيث يخصص الصباح والعصر للأطفال ومن يحضرون مصحوبين بعدد من النساء، فيما يحصل الشباب والرجال مساء على نصيبهم من الحدث.
ويردّد اليمنيون أثناء لعب المدرهة أهازيج خاصة بموسم الحج، تكون في أغلبها أدعية للحجاج من أجل أن يحفظهم الله، وأن يتقبل منهم حجهم، وأن يعيدهم إلى ذويهم سالمين.
ومن بين الأهازيج والقصائد الشهيرة في صنعاء القديمة، “لو تبصروا (تنظروا) يا حاضرين، حين قال مع السلامة، لا.. والمسبح (المؤذن) قام صاح، وشل بالجلالة (ردد اسم الله)، صرَّ المكان من وحشته، ودمَّعوا جهاله (بكى أطفاله)”. أما في مأرب وبعض المحافظات الشرقية، فتردد أهازيج أخرى.
وبلغ عدد الحجاج اليمنيين هذا العام 20 ألف حاج، دخلوا الأراضي السعودية عبر منفذ الوديعة الحدودي بمحافظة حضرموت (شمال شرق)، وفق بيانات رسمية يمنية.
تبدأ مدرهة العودة عقب عيد الأضحى بيومين أو ثلاثة أيام (خلال أيام التشريق)، والطامحة إلى تشويق الحاج للعودة إلى أهله ومحبيه، بالإضافة إلى ذكره بالخير والدعاء له بالعودة سالما وينشد الأطفال والكبار وقد علقوا على المدرهة الناقوس “يا مدرهة يا مدرهة.. مال صوتش واهي.. قالت أنا واهية وما حد كساني.. كسوتي رطلين حديد والخشب رُماني”.
ويضيف الباحث أحمد مسعد، “ثم يأتي شخص له سمات المُسَبِح (المنشد)، فينشد من ضمن ما ينشده، “يا مُبشر بالحج بشارتك بشارة.. هِنيَت لك يا حاجنا فزت بالغفران.. زرت قبر المصطفى وتلمس الأركان.. والصلاة والسلام على الرسول. يا من سمع يصلي على النبي العدناني”.
وعندما يعلم أهالي القرية أو الحي بمقدم موكب الحجيج الخاص بأقارب وجيران لهم يخرجون إلى مشارف عزلهم وقراهم أو في المدن إلى المطارات والمنافذ البرية ويستأجرون سيارات ويصطحبون معهم الطبول والمزامير وقبلها يقومون بتحضير الأغنام والكباش للذبح بحيث يتم توزيعها على الفقراء والمحتاجين ويصطف الجميع بما في ذلك الأطفال الذين يتلهفون لرؤية حجيجهم كي ينعموا بالهدايا والحلوى التي سيوزعها عليهم الحجاج فور وصولهم.
وما إن ينزل الحاج من العربة، حتى تنثر عليه زهور الفل والياسمين وتزغرد النساء وتطلق الأعيرة النارية والمفرقعات والألعاب النارية فرحا ويحمله الرجال على الأكتاف إلى أن يصل إلى عتبة منزله ليبدأ باستقبال ضيوفه القادمين من كل صوب لتهنئته بوصوله بالسلامة، وعادة ما يحضر المهنئون ومعهم الأغنام والمواشي، وهو بدوره يقدم لهم ماء زمزم والهدايا كالمسابح وسجادات الصلاة والمصاحف والتمور، وتستمر الولائم لمدة شهر والجميع في بهجة وسعادة غامرة.
مختصون في التراث الشعبي أعربوا عن أهمية المحافظة على أهم التقاليد العيدية راجين من الجهات المختصة أن تكون بمثابة تقليد سنوي.
ويؤكد أهالي صنعاء القديمة على أنهم لا يزالون مع بعض جيرانهم يمارسون هذه الطقوس التي قالوا عنها أنها تعمل على تطوير العلاقات الاجتماعية بين الناس في صنعاء القديمة، مؤكدين أنها سائرة على طريق الانقراض إذا لم يتم توثيقها وتفعيلها في المناسبات الاجتماعية والدينية.
وأشاروا إلى أن مثل هذه الأنواع من العادات والتقاليد تعد وجها سياحيا لليمن باعتبارها تقليد عريق يضم حكاية الإنسان في اليمن الذي يعبق بتاريخ عريق وتراث إنساني خصب.

1