أحدث الأخبار
الجمعة 29 آذار/مارس 2024
1 2 3 41120
رمضان ينير ليالي المدينة القديمة في تونس!!
01.06.2017

لا يفوّت التونسيون فرصة الفرح، حتى أنهم يحولون شهر رمضان إلى سهرات ولقاءات ينسون خلالها عناء الصيام وتعب يوم كامل، وفي العاصمة يختار البعض الأجواء الشرقية المميزة للمدينة القديمة بمعمارها الإسلامي الذي يضفي على أجواء رمضان لمسات من ألف ليلة وليلة.
تونس - تنام المدينة القديمة في تونس العاصمة مع غروب الشمس في سائر أشهر السنة، فتغلق المحلات التجارية أبوابها ويتسلّل عشاق المدينة من المقاهي ولا يظل في “البلاد العربي” كما يسمّيها التونسيون إلا سكانها الذين يغلقون أبواب منازلهم، ذلك هو حال المدينة التي تعج بالحركة طيلة النهار.
وفي رمضان تضيء المدينة فوانيسها ويتجمّع التونسيون عائلات وأصدقاء وأقارب وأحبّة في مقاه بعضها في الأصل منازل، يقطنها أهلها من متساكني “المدينة القديمة” ليستمتعوا باحتساء “القهوة العربي” أو الشاي التونسي بالنعناع، وتذوق الحلويات التونسية، فضلا عن تشنيف الأذن بسماع الأنغام التراثية وإيقاعاتها حتى ساعة متأخرة من الليل.
و”المدينة العربي”، وهي الجزء العتيق والقديم من مدينة تونس، يرجع تأسيسها إلى عام 698 هـ بالقرب من جامع الزيتونة وصُنفت منذ العام 1979 ضمن لائحة مواقع التراث العالمي لليونسكو.
وتضم أعرق قصور مماليك تونس القدامى وعاش فيها أول السكان الذين حطوا رحالهم في تونس، وتحيط بها أسوار كبيرة وفيها أبواب عديدة منها “باب الفلة” و”باب بنات” و”باب سويقة” و”باب جديد” و”باب العسل” وفي المجموع تحتوي على 24 بابا.
وخلال ليالي رمضان تتحول أزقة “المدينة العربي” الضيقة إلى مدينة ليلية تزدهر فيها الحركة بعد أن اعتادت المحلات والمقاهي فيها على غلق أبوابها في وقتِ مبكر من أيام الشتاء والربيع، حتى أنه يصعب على المارة تجاوز تلك الأزقة الضيقة في أوقات متأخرة من الليل.
ويفضل التونسيون أجواء المدينة القديمة خلال شهر الصيام لما تتميز به من خصوصية بدأ التونسي يفقدها مع تطور المعيشة والعصر وسرعة نسق الحياة.
وتختصّ المدينة القديمة في شهر رمضان ببيع أنواع الحلويات التقليدية التي يحبذها التونسيون في شهر الصيام مثل “الزلابية” و”المخارق” المصنوعتين من مشتقات القمح والعسل والجلجلان (السمسم) على شكل قطع مستديرة ومشبّكة أو مستطيلة مع الاستدارة، وهي في الأصل من منطقة الشمال الغربي لتونس وخاصة محافظة باجة، ولا يزال سر صناعتها محفوظا لدى سكان المنطقة الذين يختصون بها.
كما يعد “المقروض القيرواني” و”البوظة” و”المهلبية” و”الصمصة” من أشهر الحلويات التقليدية إلى جانب انتشار صنع القطائف التي استقدم التونسيون سرّ صناعتها من الشام وتركيا.
ابحث عن مقعد
يسافر عشاق المدينة خلال ليالي رمضان في رحلة مميزة عبر الأزقة الضيّقة تبدأ من سوق “النحاس” الذي تباع فيه قطع النحاس المنقوش، مرورا بسوق “العطارين” المخصص لبيع العطورات وأنواع العود والطيب ثم سوق “البركة” المخصص لبيع الذهب والحلي، لينتهي بهم المطاف إلى المقاهي الثقافية والشعبية التي تتحول بعد الإفطار إلى أماكن للاستمتاع باحتساء “القهوة العربي” أو الشاي وتذوّق الحلويات التونسية.
وتقول حبيبة، التي ترتاد مقاهي المدينة في ليالي رمضان، “من يظفر بمقعد في هذه الأزقة الآن يعتبر محظوظا، فلقاء الأصدقاء والأحبة هنا له طابع آخر في سهرة بلون رمضاني”.
وتضيف “للأجواء الرمضانية في هذه الأماكن التقليدية صبغة خاصّة، لا يمكن أن نجدها في أماكن أخرى خاصّة في ظل الانتشار الأمني في كل مكان، والذي يساهم بدوره في جعلنا نشعر أكثر بالأمن، لذلك اجتمع مع صديقاتي ندخن الشيشة ونشرب القهوة.. إنها أجواء ألف ليلة وليلة بمعمار إسلامي وأضواء الفوانيس القديمة”.
ومن جانبها تقول سنية، وهي تعمل بأحد المقاهي، “المدينة تكون أجمل في رمضان، ونوَدّ تواصل مثل هذه السهرات على امتداد السّنة خاصة في فصل الصيف، إلا أن السلطات تمنع ذلك بحجّة أن بعض المحلات لا تملك تراخيص”.
لمة عائلية وشبابية
أما مروان اليعقوبي المهاجر في أوروبا والذي عاد خلال شهر رمضان ليستمتع بهذه الأجواء التي افتقدها منذ رحل عن البلاد، فيقول إن “رمضان ليس له طعم بعيدا عن البلاد وعن أسوار المدينة القديمة بالتحديد ومقاهيها وفضاءاتها التي تزيد الأجواء جمالا وبهاء خلال رمضان”.
ويضيف “إن ما يميّز المدينة القديمة في شهر رمضان هو عودة الطابع الشرقي لها وفترات الزمن الجميل، زمن كان فيه الأجداد والآباء متشبثين بجذورهم وتقاليدهم ولباسهم التقليدي الأصيل”.
وترى ليلى، وهي من عشاق البلاد العربي، أن “سهرات المدينة القديمة في رمضان تعيد الحنين لأيام وذكريات خلت في تونس، بعيدا عمّا يعيشه الشعب اليوم من أزمات سياسية واقتصادية وغيرها”.
وبحسب ليلى فإن “روّاد هذه الأماكن يجدون ضالتهم هنا، فمنهم من يفضل لعب الورق (الكوتشينة)، ومنهم من يتجاذب الحديث مع مرافقه أو جليسه، ومنهم كذلك من يظل منصتا منتشيا ببعض الأغاني التراثية وهو يدخن الشيشة، فيما يفضل آخرون الرّقص على الإيقاعات التونسية، وترديد الأغاني مع الفنانين الموجودين هناك، وهو ما يدخل نشاطا وحركة على المدينة”.
ويقول حسن العش مدرس إنه لم يعتد الجلوس مع العائلة حول مائدة الطعام إلا في رمضان، لكن حرارة الطقس جعلته لا يكمل السهرة معهم في متابعة التلفزيون والمسلسلات التونسية فاختار الخروج مع أصدقائه إلى مقاهي المدينة القديمة التي لا تبعد كثيرا عن مقر سكناه، وهناك يقضي السهرة في تدخين الشيشة ولعب الورق إلى ما بعد منتصف الليل.
وفي السّياق نفسه يعتبِر خالد عجولة، الذي يعمل نادلا بأحد المقاهي، أن “المدينة القديمة لا تكون بهذه الروح وهذا النشاط إلا في شهر رمضان المعظم، فأغلب العائلات تفضّل قضاء سهراتها هنا في هذه الأروقة القديمة”.
وأضاف عجولة “إلى جانب الأجواء الرمضانية، فإن هذه السهرات تعود بالنفعِ على عدد من العائلات التي تستغل هذه المناسبة الموسمية للعمل وكسب الرزق، فهناك الكثير من العاطلين عن العمل يظفرون ولو بمورد بسيط هنا”.
والملفت للانتباه أن عددا من المنازل تحولت إلى “شبه مقاه”، فقد أصبحت “سقيفة” المنزل، وهي الغرفة الأولى التي تلي باب الدار مباشرة، عبارة عن مقهى صُفّت في ركن منها أواني إعداد القهوة والشاي والأطباق والكؤوس، كما وضعت بالقرب منها صناديق المشروبات وليس ببعيد عنها آلة إعداد القهوة.
وعلى هذه الشاكلة كان منزل نصرالدين الشاطر، أحد متساكني زقاق “نهج الباشا” بالمدينة القديمة الذي تمتد على طوله هذه السهرات، حيث توضع الكراسي والطاولات جنبا إلى جنب على طرفي الزقاق.
ومنذ تقاعده من العمل بأحد البنوك يعمل الشاطر بهذه الطريقة، فيقول “أستغل شهر رمضان، فأحّول منزلي إلى شبه مقهى، حيث أساهم في إحياء أجواء المدينة القديمة لأكسب رزقي ورزق أهلي. أشغل معي بعض العاطلين عن العمل فنقدم القهوة والمشروبات والعصائر والحلويات لمرتادي هذه الأماكن”.
وأضاف الشاطر “هذه الأنواع من السهرات تضفي حركة موسميّة على المدينة وتساهم في تنشيط دورة اقتصادية هامة، كما تعيد لهذه الأماكن روحها التي تفتقدها في باقي أيام السنة”.
مهرجان المدينة
تعيش المدينة القديمة في رمضان على أنغام الموسيقى التراثية والفنون المتنوعة، ففي حين يفضل بعض التونسيين قضاء سهراتهم على وقع آلة العود والقانون والآلات الإيقاعية التي تنظمها المقاهي الخاصة على مقربة من قصر الحكومة الموجود بساحة القصبة، يفضل آخرون السهر في النوادي الثقافية في إطار فعاليات مهرجان المدينة، مثل نادي الطاهر الحداد و”بير الأحجار”، التي مازالت تحافظ على لمساتها التراثية التي تعكس روح المدينة العربي.
سهر حتى السحور
وتستقبل مختلف فضاءات المدينة القديمة مهرجان المدينة في دورته التي انطلقت الثلاثاء للفنانة التونسية ليلى حجيج التي أطربت الحاضرين في المسرح البلدي، ويتواصل المهرجان ليقدم باقة من الحفلات المتنوعة من الموسيقى والفن.
ويتضمن برنامج الدورة الحالية عروضا متعددة من بينها حفل لفرقة “العازفات”، وحفلان لفرقة “شيوخ سلاطين الطرب الأصيل” من سوريا، وعرض “الحضرة 2” للفنان الفاضل الجزيري وعرض آخر للفنان زياد غرسة، وسهرة للمطرب أيمن لسيق، فيما سيكون حفل الاختتام بتوقيع المعهد الرشيدي عبر موشحات ووصلات من موسيقى المالوف في المسرح البلدي.
ويستضيف معلم دار حسين في باب منارة مجموعة ليالي الطرب يوم 3 يونيو يليها في سهرة اليوم الموالي عرض “شبيليات” لفرقة سيدي بوسعيد للمالوف والتراث الموسيقي ثم عرض للفنان الشاب محمد الهادي العقربي يوم 5 يونيو.
أما معلم دار الأصرم فسيحتضن أربع سهرات لكل من مجموعة سمير الزغل للموسيقى العربية وفرقة الألفة النسائية وعازف الساكسوفون رياض الصغير في حفل بعنوان “يازهرة”، بالإضافة إلى حفل الفنان نوفل بن عيسى.
ويتابع روّاد مهرجان المدينة يوم 15 يونيو حفلا غنائيا للفنانة ياسمين الشارني، وهو عرض يحمل عنوان “من وحي صليحة” ستؤدّي خلاله الفنانة وهي أصيلة محافظة الكاف مجموعة من أغاني الفنانة صليحة.
وتقام في مقامات الأولياء الصالحين والزوايا الصوفية التي تنتشر في حارات المدينة القديمة مواكب للإنشاد الديني والصوفي ومجالس الذكر. وتعد زاوية سيدي إبراهيم الرياحي وزاوية الشيخ محرز بن خلف في منطقة الحلفاوين ومقام سيدي بن عروس بالقرب من جامع الزيتونة، من أشهر الأماكن التي يتحلّق فيها المريدون للإنشاد والذكر وتزدان موائدها بالحلويات الشعبية لعابري السبيل والفقراء.

1