أحدث الأخبار
الأربعاء 24 نيسان/أبريل 2024
1 2 3 41122
"أفراح النقطة".. أعراس كل شيء فيها مستأجر حتى العروسة والعريس!!
03.03.2017

دفع ارتفاع تكلفة الزواج في مصر إلى أرقام قياسية، البعض من الراغبين في الزواج من الشباب، إلى اللجوء إلى عادات جديدة، لم تكن معهودة من قبل، مثل الامتناع عن شراء “الشبكة” (هدية العروس من الذهب)، وإقامة حفلات الزفاف في الشوارع بدلًا من الفنادق وقاعات الأفراح بالأندية، وكذلك إلى إقامة أفراح وهمية لجمع النقود، التي يسميها المصريون “النُقطة”.؛
القاهرة- تعتبر النقطة من أشهر التقاليد في الأفراح والمناسبات الشعبية المصرية؛ حيث يتسابق المدعوون لتقديم النقود إلى العريس، هامسين في أذنه “النقطة يا عريس”. وعلى امتداد الحفل، يظل العريس يجمع النقود لتكون عونا له وينفق منها خلال الأيام الأولى من حياته الجديدة، بعد أن يكون قد أنفق أغلب مدخراته استعدادا لهذه الحياة.
لكن، في السنوات الأخيرة، تحولت النقطة إلى مشروع استثماري ووسيلة لجمع المال عن طريق التحيل. وعلى طريقة فيلم “الفرح”، يجري تنظيم حفلات أعراس وهمية لجمع مبلغ من المال.
يلامس فيلم الفرح بكل مباشر ظاهرة أفراح النقطة في سياق درامي صادم لكنه واقعي يرصد حال مجتمع تحكمه التناقضات وتدفعه الحاجة إلى الكذب والتزييف. يضيق الحال بزينهم (خالدالصاوى) فيضطر لإقامة حفل زفاف واستئجار عروسين ليسترد ما دفعه من أموال طائلة دفعها لآخرين على شكل «نقطة»، قبل أن تتوفى والدته في نفس الليلة وتضعه في مأزق نفسي وأخلاقي كبير.
طوال مشاهدة فيلم «الفرح» الذي يجسد في مسار واحد ومتواصل عرسا طويلا في أحد الأحياء الشعبية في القاهرة، لا يتوقف ماجد الكدواني، الذي كان يقوم بدور «النبطشي»، عن الصياح في مكبر صوت لا يفارق يده. ولم يغادر العسلي (النبطشي) المنصة إلا لفترات محدودة. ويتمحور دوره طوال العرس حول تشجيع الحاضرين على سداد قيمة «النقطة» التي جاؤوا من أجل سدادها، كما يقوم بتقديم أصحاب فقرات غنائية واستعراضية، على رأسهم صلاح وردة، «المنولوغيست» (الاستعراضي) الذي عفا عليه الزمن.
البحث عن بديل
لجأ البعض من الشباب المصريين إلى إقامة حفل زفاف غير حقيقي، العروس فيه تكون في العادة مستأجرة، ضمن أجواء توحي بأن العرس حقيقي، حيث الزغاريد والمدعوون والراقصات والمخدرات. وفي نهاية الفرح يكون العريس قد حصل على مبلغ جيد يساعده على إتمام فرحه الحقيقي. وفور دخول السرادق -المُعد في شارع مغلق من أجل حفل الزفاف- يتم إطلاق الألعاب النارية -بل وأحيانا الرصاص الحي من البنادق والمسدسات-، لتحية المدعوين.
وبعد تناول الأطباق الشهية، يصعد أحدهم إلى المسرح، ليعلن مشاركته المالية في الحفل، ويقدم “النقطة” إلى العريس، ثم يقوم صديقان له، بتسجيل المبالغ التي يتم تحصيلها، وأسماء أصحابها في دفتر. ويتم إهداء “النقطة” بالتناوب بين الأصدقاء والأقارب، حيث كان العريس هو أيضا قد قدم المال لصديق آخر في يوم زواجه من قبلُ. وتعد أفراح النقطة صورة غريبة من تكافل اجتماعي يصارع من أجل البقاء، ولا تقل تكلفة الحفل عن 100 ألف جنيه (14 ألف دولار تقريبا) ولكن صاحبها يعلم أن ما سيحصل عليه يفوق هذا الرقم بكثير.
وأغلب من يقيمون هذه الأفراح هم العمال الفنيون أو الحرفيون بسبب انتشار المجاملات المادية بينهم واعتيادهم على جمع الأموال لمن يمر منهم بضائقة أو ظروف مادية أو اجتماعية صعبة. ويمكن أن يصل المبلغ الذي يجمعه العريس في الفرح إلى 200 ألف جنيه (11000 دولار)، ويرتفع هذا المبلغ بشكل اكبر في القرى حيث هناك عادة التنافس على تقديم الأكثر، ليصل أحيانا إلى مليون جنيه (ما يقارب 55000 دولار).
ولا تقام هذه الأفراح بقاعات أو نواد ولكنها تقام بالشوارع في سرادقات مفتوحة للجميع حيث يكون للطبل والمزمار والرقص الشعبي والأغاني الشعبية المركز الأول في برنامج الحفل بالإضافة إلى الزفة، كما تمارس في غالبيتها الكثير من الأعمال الممنوعة مثل تعاطي المخدرات وتدخين الحشيش وإطلاق النار من أسلحة أغلبها غير مرخص.
ولا تقتصر الزيجات الوهمية على الأحياء والحارات الشعبية بالقاهرة فقط، بل تمتد إلى العديد من القرى المصرية، فنجد مثلا من يقيم فرحا لزواج ابنته التي لم تتجاوز العاشرة من العمر، لجمع النُقطة، وآخر يقيم حفل طهور (ختان) لابنه الذي سبق وأن تم ختانه من قبل، بل ووصل الأمر إلى حد استئجار فتاة تمثل دور العروس، فتجلس بجوار العريس (الوهمي) في الكوشة (منصة العريس والعروس)، وما هي في الحقيقة بعروس.
موروث قديم
نظام النقطة، يقوم على العلاقات الشخصية وعلى الثقة المتبادلة، لأنه إذا لم يقم العريس لاحقا برد المشاركات المالية التي تلقاها في حفل زفافه، فسوف تتضرر سمعته، إن لم يحدث ما هو أسوأ، إذ يمكن أن يصل الأمر إلى وقوع شجار، قد يصل في البعض من الأحيان إلى ارتكاب جرائم قتل، إذا لم يدفع المدعوون ما عليهم.
عادة جمع الأموال من خلال إقامة الحفلات الجماعية، هي انعكاس لموروث قديم، ووسيلة من وسائل الادخار التي يلجأ إليها المصريون وغيرهم في مجتمعات عربية كثيرة على مدار سنوات عدة، حيث يحضر الأصدقاء وأفراد العائلة حفلات الزفاف، ويقدمون المال كنوع من التكاتف ومساندة الزوجين الصغيرين في بدء حياتهما الجديدة. وقال البعض من أساتذة علم الاجتماع، إن ظاهرة النقطة، لا يمكن فصلها عن مظاهر عديدة موروثة منذ الأجداد للفرح الشعبي، وتتمثل في الرقص المستوحى من البيئة المحلية للعريس والعروس، وكذلك إطلاق الأسلحة النارية، وتقديم الشراب والطعام وغيرهما.
وتختلف نقطة العريس عن نقطة الراقصة على مسرح حفل الزفاف، والتي تذهب إلى جيب الراقصة وفرقتها الموسيقية، ويسمى هذا النوع من تقديم النقود في البعض من مناطق الريف المصري بـ”الشمعة”، أو بـ“السلام”. وتكون النقطة فرصة للتباري في إظهار الكرم والبذخ والتنافس بين العائلات، إذ يقف مقدم الحفل (الذي يسمى النبطشي) أو مطرب الحفل أو الراقصة الشعبية، فيصرخ “هذه ألف شمعة (يعني جنيه) من عائلة فلان”، أو خمسة آلاف شمعة من عائلة أخرى، وهكذا حتى يشعل المنافسة، وترتفع الحصيلة.
وتقديم النقود من جانب الجيران والأقارب والأصدقاء، إلى أهل العروسين، ليس قاصرا فقط على ليلة حفل الزفاف، بل يسبقها “تنقيط” العروس أيضا في الليلة التي تسبق ليلة العرس، وتلك الليلة السابقة تسمى ليلة “الحِنّة”، حيث يجري صبغ أيدي وأقدام العروس وأهلها من النساء -بل وأحيانًا أجزاء من جسم العريس أيضًا- بالحِنّاء، ثم تضع قريبات العروس ما تيسر لهن من المال، كل حسب استطاعتها، في صينية معدّة لهذا الغرض.
وهذه الأيام، وفي المدن الكبرى على وجه التحديد، يتم استبدال “النقطة النقدية” بنقطة “عينية”، في صورة سلع معمّرة، يستخدمها الزوجان في بيت الزوجية، نظرا لعدم قدرة الزوج على شراء تلك الأجهزة، فنرى قريبات العروس يشترين لها سجادة، أو ستائر للنوافذ، أو نجفة (مصباح كهربائي)، أو أدوات للطبخ، أو حتى مفارش للأسِرّة…
الخبراء يشيرون إلى جانب آخر لظاهرة النقطة في الأفراح الوهمية تلك، ويقولون إن هذا التقليد المصري -إلى جانب كونه جزءًا من العادات القديمة- فهو أيضًا يمثل جانبًا كبيرا من الاقتصاد غير الرسمي، الذي يقدره البعض من الخبراء، بحوالي 40 بالمئة أو أكثر من الناتج الإجمالي المحلي، ولأن حوالي 25 بالمئة من تعداد الشعب المصري (90 مليون نسمة) يعانون من الفقر، فإن “أفراح الشوارع” تمنح المصريين، الذين بالكاد يعرفون الطريق للبنوك، الفرصة لتأمين مدخرات مالية.
بحسب تصريحات عمرو عادلي، الباحث في مركز كارنيغي الشرق الأوسط، تمثل شريحة كبيرة من المجتمع، أحد الموارد الهامة للاقتصاد غير الرسمي، وتشمل تلك الشريحة، الباعة الجوالين الذين يبيعون كل شيء، بداية من بخاخ رذاذ الفلفل، إلى أغطية الأسِرّة، بالإضافة إلى سائقي عربات نقل الركاب في عشوائيات القاهرة (التوك توك)، وصولا إلى الشركات المسجلة. مثال آخر يقدمه عادلي، وهو قطاع المعمار، حيث تقوم الشركات الكبرى بإنجاز معظم أعمالها، عن طريق التعامل من الباطن على أساس نقدي مع شركات صغيرة ومتوسطة، ووفقا لدراسة نشرتها منظمة العمل الدولية.
اقتصاد تحت
كنتيجة لهذه الظروف، باتت حفلات الزفاف الوهمية، هي الطريقة المثلى -ليس فقط للقدرة على العيش- ولكن أيضا للمضي قدما في الحياة، وإلى أن يتغير ذلك الوضع، ستظل علاقات القرابة والجوار هي الأقوى. وعلى حد كلام الشاب محمد، وهو أحد العرسان الذين يتطلعون إلى النقطة، فإن “البنوك ومثل تلك الأشياء ليست لنا، وما يهمني هو حب الناس وإذا عرفك الناس ووثقوا بك فسوف يمكنك جمع كل المال الذي تريده”.
على الصعيد الرسمي، تمثل تلك المعاملات المالية غير الرسمية، تحديا كبيرا للحكومة، التي تطمح إلى توسيع رقعة الضرائب، والتقليل من نفقات واحدة من أكثر الميزانيات المتضخمة عجزا، وإنعاش اقتصاد تداعى بسبب سنوات من الاضطرابات السياسية. وفي هذا الشأن تقول فايقة الرفاعي، نائبة محافظ البنك المركزي المصري السابق “يتطلب التعامل مع البنوك تنفيذ العديد من الإجراءات التي لا تتناسب وطبيعة الاقتصاد المصري، فالغالبية العظمى من الناس ليس لديهم الدخل الكافي، في حين أن من يدخرون حصة جيدة من المال ليس لديهم توثيق له”.
والعريس محمد، صاحب الفرح الوهمي، يندرج ضمن الفئة الثانية، حيث أن عمله في تجارة الأثاث يسير في أحسن حال، ولكنه يديره من داخل شقة سكنية، وليس في محل تجاري، ولا يدفع الضرائب، وقد فشلت محاولته الوحيدة للحصول على قرض من البنك، لأن البنك طلب ضمانات، ولأن الفائدة المضافة على المال “حرام” في اعتقاده، ومن ثم قام باستغلال شبكة علاقاته من العائلة والأصدقاء.

1