أحدث الأخبار
السبت 20 نيسان/أبريل 2024
1 2 3 41121
القصور الصحراوية في الجنوب التونسي.. كنوز يلفها النسيان!!
08.11.2016

تمتد القصور الصحراوية المتناثرة على أكثر من نصف مساحة الجنوب التونسي، وتعتبر من أهم روافد السياحة الصحراوية، لأنها تمثل أحد الرموز التاريخية لنمط حياة الأمازيغيين في محافظات جنوب البلاد، وذلك لفرادة معمارها وهندستها، لكنها تعاني اليوم من الإهمال والنسيان من قبل السلطات المختصة التي لم تعن بترميم هذا التراث القيم
مدنين (تونس)- رغم مرور أكثر من 300 سنة على تشييدها لا تزال القصور الصحراوية صامدة متربعة على الرمال التونسية لتكون رمزا لعراقة فن العمارة بجنوب البلاد وتميزه بإرث حضاري على مر التاريخ، لكن باحثين في التاريخ والتراث يحذرون من تحول هذه القصور إلى رماد إذا لم يتم الاعتناء بها باعتبارها شواهد تاريخية تتفرد بنمط معماري خاص.
والقصور الصحراوية عبارة عن حصون أقامها الأمازيغ هربا من زحف بني هلال وبني سليم في أواسط القرن الحادي عشر مثلما تشير إلى ذلك نقوش محفورة في سقف إحدى غرف “قصر زناتة” و”القصر القديم بالمزطورية” على التخوم الصحراوية. ويقول المؤرخون إن “القبائل الأمازيغية ابتكرت هذا الطابع المعماري وشيّدت قصورها على أعالي الجبال هربا من الغزوات التي كانت تتعرض لها من القبائل العربية التي وصلت إلى المنطقة قادمة من المشرق العربي إلى شمال أفريقيا في القرن الحادي عشر الميلادي”.
والقصور التي بنيت على المرتفعات هي عبارة على طوابق من غرف صغيرة فوق بعضها، يصل ارتفاع الواحدة منها إلى 6 أمتار وعرضها بين 1.5 متر ومترين، وعادة ما يكون القصر في شكل مستطيل. ويختلف عدد الغرف من قصر إلى آخر، وعادة ما يقارب عددها 200 أو 300 غرفة، مقسمة على طوابق قد تصل إلى ستة طوابق، بحسب التونسي المختص في التراث الحبيب علجان.
والداخل إلى القصر، تستقبله البوابة الكبيرة المصنوعة من خشب النخيل والمحصّنة بقفل حديدي ضخم يحرسه خفير مكلف من مجلس القبيلة. وبعد تجاوز البوابة نجد “السقيفة”، وهي ممر طويل مسقوف بخشب النخيل ويسمّى في اللهجة المحلية “سنور”. ويقود الممر إلى فضاء واسع مفتوح، أرضيته مرصوفة بالحجارة الملساء ويسمى “الصحن” وهو الساحة المركزية للقصر، وعليها تطل كل الغرف والطوابق، وفيها كان مجلس أعيان القبيلة يعقدون جلساتهم التي يناقشون فيها شؤونهم. ويتحول “صحن” القصر أحيانا إلى محكمة لفض النزاعات القائمة بين أفراد القبيلة.
أما الغرف فتُشيّد بعضها فوق بعض وبسقف على شكل قبة وذلك لاعتبارات مناخية، فالغرفة معدة لتخزين المواد الغذائية ويجب أن تحافظ على درجة حرارة مناسبة لوظيفتها، ومن شأن القبة أن تعكس أشعة الشمس بعيدا عنها بخلاف السقف المسطح الذي يترك مجالا لحرارة الشمس كي تستقر فوقه. ويمكن الوصول إلى الحجرات العلوية بسلالم مصنوعة من الخشب أو بالحبال لإيصال المؤن ويحيط بها سور شاهق يبلغ ارتفاعه عشرة أمتار للحراسة، إضافة إلى الحارس المتمركز عند مدخل القصر.
السبعيني عبدالله المدنيني، أحد مواطني مدينة مدنين (جنوب شرق)، يروي طريقة تشييد هذه القصور، حيث لم توجد في الماضي مواد بناء حديثة مثل الآجر والإسمنت وما إلى ذلك. ويقول المدنيني إنه “لإنجاز هذه الغرف كان أجدادنا يسقفون أكوام الحطب ومن ثم يضعون الجبس على شاكلة قباب ليقوموا في ما بعد بإشعال النار، وعندما يكتمل احتراق الجبس يأخذ شكل القبة”.
وتبنى أسقف المداخل الرئيسية للقصور باستعمال الجبس والخشب، أما الأبواب فتصنع من خشب النخيل وعادة ما تجد مدرجا صغيرا (مجموعة من الأحجار) للربط بين طابق وآخر، بحسب المدنيني. ويضيف، أنه “في كل قصر يتم تعيين حارس حيث يتم وضع المؤونة، وتوزع في الغرف المختلفة بنظام معين، فالقمح والشعير يتم وضعهما في الغرف العالية كي يسهل سكبهما من فوق على ظهر جمل يكون في الأسفل، وتوضع بقية المواد الغذائية في الغرف السفلية”.
شواهد على نظام القبائل
تمتد القصور الصحراوية في محافظتي تطاوين ومدنين (جنوب شرق) ويبلغ عددها ما يقارب 160، أشهرها قصر “الحدادة”، الذّي يقع في مدينة غمراسن، (30 كلم من مركز محافظة تطاوين)، وقصر “أولاد دبّاب” (10 كلم عن تطاوين). وتعني القصور الكثير لأهالي الجنوب التونسي، فهي تربطهم بتراثهم وتاريخ أجدادهم وتفاصيل نمط عيشهم التقليدي.
وللقصر وظائف أخرى مختلفة تتزايد وتتراجع بحسب المواسم والظروف الأمنية التي تشكل الشغل الشاغل لذلك العصر الذي تتناحر فيه القبائل.
„ ويلعب هذا المعلم المعماري دورا كبيرا في تأمين النشاطات التربوية والدينية والتجارية عند الإقامة حوله، وهي إقامة مؤقتة ومقتصرة على زمن التهديدات الأمنية وسنوات الجفاف، أما في ساعات اليسر والرخاء فينتشر الأمازيغيون بين السهول والمراعي للزراعة والتجارة. ولعل طابعها الهندسي المميز هو ما مكّن بعضها اليوم من أن يتحوّل إلى معالم سياحية ومزارات على الرغم من الإهمال الذي يعانيه أغلبها.
ووفقا للمختص في التراث الحبيب علجان، فإن تشييد أول قصر كان في القرن 12 ميلادي، لكن القصور الصامدة تعود إلى 300 عام، وكان أولها “القصر القديم” الموجود في منطقة المزطورية (15 كلم على تطاوين). ويقول المؤرخ منصور بوليفة، إن “وظيفة هذه القصور تحوّلت إلى تخزين الطعام، فكانت الغرف تقسم بين عائلات القبيلة حيث تودع داخلها محاصيلها السنوية من قمح وشعير وتمور وزيت زيتون وغيرها من المواد الأخرى. وفي القرون المتأخرة توجهت القبائل العربية في المنطقة إلى محاكاة النموذج الأمازيغي في التخزين، فأنشأت لها قصورا غير أنها اختارت السهول لتشييدها.
وقد ساعدت القصور الصحراوية القبائل العربية على التخلي عن حياة البداوة والتنقل بحثا عن مواطن الرعي وسهلت لها أسباب الاستقرار”. وحتى الآن تظل هذه القصور خير شاهد على نظام القبائل الذي كان منتشرا في تونس قبل فترة خمسينات القرن الماضي، إذ كان في السابق كل قصر يسمى باسم عائلة معيّنة. كما تستمد هذه المعالم أسماءها من العائلات المالكة لها في ذلك الزمن، ففي محافظة تطاوين مثلا يوجد قصر “الحدادة” نسبة إلى عائلة “الحداد”.
وتعتبر تطاوين التي تعني بالبربرية “العيون” لغناها بالثروات الجوفية، قاعدة الانطلاق لزيارة هذه القصور على بعد 610 كلم جنوب العاصمة. ويقام في هذه المحافظة المهرجان الدولي للقصور كل سنة، وهو تظاهرة ثقافية فريدة تبرز نمطا معماريا مختلفا شيده السكان الصحراويون وأطلقوا عليه تسمية “القصر”. وفي محافظة مدنين تسمّى القصور نسبة إلى 8 عائلات كبرى في الجهة، ومنها القبائل الرحل التي استقرت هناك، ومن أبرزها قبائل “ورغمة” (قبائل بربرية استقرت في الجنوب التونسي).
وفي محافظة تطاوين، ذات التضاريس الصحراوية، فإن القصور عادة ما تكون متباعدة عن بعضها البعض (من 5 إلى 6 كلم بين القصر والآخر)، في حين تكون بمحافظة مدنين حيث السهول الممتدة تكون القصور متجاورة وأحيانا تفصل بينها بضعة أمتار فقط. ويعد “قصر شنني” الواقع على بعد 20 كلم من تطاوين أعرق وأكبر هذه القصور البربرية وأكثرها استقبالا للزائرين، ويلوح القصر الذي شيد في القرن الحادي عشر كبرج للطيور على قمة جبل.
ويعتبر قصر “الحدادة” بمنطقة غمراسن في تطاوين متاهة من الغرف يبلغ عددها 567 غرفة تمتد على مساحة 6400 متر مربع، حيث قام المعهد الوطني للتراث التونسي بترميم جزء كبير منه ليصبح معلما سياحيا يزار بشكل دوري، في حين تحول القصر الموجود، وسط مدنين إلى متحف للعادات التقليدية. واستخدم قصر الحدادة سنة 2000 ديكورا لفيلم “حرب النجوم” للمخرج الأميركي جورج لوكاس الذي استقطب أكثر من 500 مليون متفرج في العالم، كما تشير إلى ذلك اللوحة الموجودة أمام القصر.
إهمال وغياب المسؤولية
فتحي الصلموك، المسؤول عن متحف العادات والتقاليد بمدنين، يقول إنه “بسبب الإهمال مازالت إلى غاية الآن ثلاثة قصور فقط من مجمل 35 في المدينة”. ويتابع “قمنا باستغلال أحد القصور الموجودة وسط المدينة، وأنجزنا فيه متحفا للعادات التقليدية ومسرحا للعروض الثقافية ومعرضا للعملة النقدية لأكثر من 150 دولة”. ويهدف الصلموك من خلال هذا المتحف إلى الحفاظ على ما تبقى من هذه المعالم الأثرية، مشيرا إلى أنه تمت إزالة معظم القصور الموجودة بمدنين بعد الاستقلال في العام 1956، كما تقلص الاهتمام بما تبقى.
وفي هذا المتحف نكتشف الحياة اليومية لقبائل المنطقة مثل ورغمة والتوازين والحواية وغيرها من القبائل العربية التي كانت تعيش في الصحراء، كما نكتشف العادات والتقاليد في الأعراس والجنائز والختان والأكل وكل ما يتعلق بالحياة الاقتصادية والاجتماعية. ويضم المتحف مجموعات نادرة من الفضة والأسلحة يعود بعضها إلى أكثر من ثلاثة قرون ومخطوطات ومجموعة من العملات الأجنبية تفوق 3 آلاف قطعة، كما يوفر المتحف للحرفيات فرصة بيع منتجوهن.
ويشدد الباحث حبيب بلهادي، رئيس جمعية “ذاكرة الأرض” التونسية، على “ضرورة التعجيل في الاستعانة بمختصين لترميم المعالم الأثرية والاعتماد على فنيي المصالح الثقافية المختصة لإنقاذ ما تبقى من هذه المعالم التاريخية الهامة”. وتتساءل الباحثة التونسية في الآثار رقية كيوة عن عدم إدراج القصور الصحراوية التونسية حتى يومنا هذا ضمن قائمة المعالم التاريخية المهمة. وطالبت منظمة اليونسكو بمتابعة مطلب سبق أن تقدمت به تونس لتسجيلها كمعالم تاريخية، كما دعت المنظمات الدولية المختصة إلى توفير الاعتمادات اللازمة لترميم القصور باعتبارها شواهد تاريخية.
ويمكن أن تدعم هذه القصور السياحة التونسية المهرجان الدولي للقصور الصحراوية الذي يعتبر أهم مناسبة ثقافية في المنطقة، وهو تظاهرة تلتئم في شهر مارس من كل سنة وتدوم ثلاثة أيام وتعرف بعادات وتقاليد أبناء الجنوب التونسي. ويقوم السياح خلال أيام المهرجان بجولات سياحية عديدة تمكنهم من الاطلاع على مخزون تطاوين وما حولها من مدن وقرى، ويستمتعون بمشاهدة ما تحفل به المنطقة من معمار فريد ومتميز.

1