أحدث الأخبار
الخميس 28 آذار/مارس 2024
1 2 3 41120
مغاربيون يلتقون على صهوات الجياد في القيروان!!
07.09.2016

فرسان المغرب العربي بشجاعتهم وأصالتهم يتخطون الحدود التي وضعها الاستعمار بين شعوب متقاربة في الأصل وتجمعها العادات والتقاليد، لذلك دأبوا على الالتقاء في المناسبات ليذكّروا بأنهم معدن في المقاومة والحرية والكرم ولا تعيقهم الحواجز الجغرافية طالما تجمعهم قيم مشتركة وتاريخ واحد.
القيروان (تونس ) - منذ المئات من السنين تستوطن قبيلة “جلاص” ريف محافظة القيروان وسط تونس، متمسكة بتقاليد الفروسية الراسخة، التي اقترنت بالمقاومة والشجاعة وقيم الحرية والكرم، منذ أزمنة كانت فيها الجياد تعوّض دبابات وطائرات اليوم في الحروب.
ورغم سطوة الزمن لم يتخلّ أفراد القبيلة، الذين يشكلون أغلب سكان أرياف القيروان، عن فروسيتهم، ففي كل عام يجتمعون في منطقة “بوحجلة” (30 كلم جنوب القيروان) خلال المهرجان المغاربي للفروسية، بحضور فرسان من مختلف بلدان المغرب العربي.
فرسان المغرب العربي ينزلون مضمار السباق ليقولوا إن "الفرسان الذين قاوموا الاستعمار الإيطالي في ليبيا، والفرنسي في تونس والجزائر والمغرب، مازالوا أوفياء لتقاليد آبائهم وأجدادهم، ولن ينزلوا عن صهوة أحصنتهم".
وفي نهاية الأسبوع الماضي أدرك المهرجان المغاربي للفروسية في بوحجلة عامه الثالث والعشرين، حاملا معه العديد من الفعاليات الثقافية والتراثية التي تشترك فيها شعوب المغرب العربي، وأبرزها سباق الفروسية والاستعراض والرماية، حيث حضر فرسان من الجزائر وليبيا وتونس والمغرب.
ويعد عشق ركوب الخيل والتحمس للفوز من القواسم المشتركة بين الفرسان المشاركين في سباق الخيل على صهوات خيول جامحة، وسط الآلاف من الجماهير التي بدت أشد حماسة، وتتحرك مثل الأمواج في كل اتجاه، وتلاحق بنظراتها ركب الفرسان كأنها هي الأخرى معنية بالفوز.
تخصيص مضمار السباق خارج المناطق العمرانية، جعل المشهد العام أشبه بحقبة تاريخية مضت من أمجاد الفروسية، لولا المئات من السيارات العصرية، منها سيارات الشرطة وآلات التصوير.
وتحتفظ بوحجلة بقائمة أبطال تركوا بصماتهم في الفروسية وسباقات الخيول، منهم مناضلون أشاوس تحدث مؤرخون عن صلابتهم وقوتهم وشهامتهم في مقاومة الاستعمار، وقد أورثوا أبناءهم وأحفادهم حب الفروسية، وقيم الكرم والحرية والشهامة.
„تونس والجزائر والمغرب الأقصى هي المهد الأصلي للخيول البربرية، ويعود تاريخ تربية هذا النوع من الجياد إلى أكثر من ألف عام قبل الميلاد“
مربي الخيول “فهمي بلعوني” (أربعيني)، يتحدث عن شغفه بركوب الخيل الذي توارثته العائلة أبا عن جد قائلا “ورثت عن جدي سرجا يعود إلى عام 1963”.
ويضيف أنه مولع بتربية الخيل وركوبها منذ طفولته، مشيراً إلى أن هذه العادة بدأت تنتعش بعد انتكاسة شهدتها نتيجة التكلفة الباهظة لتربية الخيل، في ظل غياب الدعم الرسمي، معتبرا أن المهرجان مناسبة للاحتفاء بالفروسية ورد الاعتبار للفارس.
وارتبطت الفروسية لدى أهالي منطقة “جلاص” إلى اليوم، بالمقاومة والشجاعة، وقيم الحرية والكرم، فيما يعد المهرجان مناسبة لإحياء هذه القيم.
يقول علي بن محمد بن عمار الميراوي إنه رغم بلوغه 69 عاما، يواصل هوايته في ركوب الخيل بالحماسة نفسها التي كانت تحدوه وهو في التاسعة من عمره، عندما شارك في أول سباق له على حصان جده.
وشارك الميراوي في المهرجان الأخير في بوحجلة مساهمة منه في رد الاعتبار للفروسية، مع الرغبة في الفوز بالجائزة المالية، وعن هذه المشاركة يقول “بمجرد امتطاء صهوة الحصان يتملكني شعور بالشجاعة والحماسة الفارس حر، ولا يتبع أي حزب سياسي”.
ويقدم الميراوي نفسه على أنه يعرف جميع التفاصيل المتعلقة بالخيول، خصوصا الخيول البربرية وكيفية تربيتها وعلاجها، غير أنه لا يخفي صعوبة تربية هذه الخيول، بسبب ما تتطلبه من عناية، مؤكدا أنها ثروة حيوانية مهددة نتيجة غلاء المعيشة وسنوات الجفاف.
"المداوري"
شدت انتباه الآلاف من الحاضرين مشاركة فرسان من ليبيا وتقديمهم استعراضا للفروسية يسمى “المداوري”، وهو شكل من أشكال السباق، حيث يكون الفرسان في اتجاه محدد وعند إشارة الانطلاق تدور الخيول وتتسابق في الاتجاه العكسي، ويعتبر ذلك اختبارا لقدرة الفارس على التحكم في جواده، ومناسبةً لتقديم لوحة فنية تراثية يستعرض فيها هذا الفارس مواهبه ولباسه المميز، ولإبراز قوة الحصان التي تجمع بين السرعة والاستعراض.
عبد المولى خليفة الواعر (25 عاما)، أصغر أفراد كتيبة الفرسان الليبيين الحاضرة في المهرجان من قبيلة “قماطة العربان”، وأحد أعضاء نادي الفروسية، يقول “تعلمت الفروسية عن جدي من الأب والأم، ومازلت متمسكا بالمسار نفسه والفروسية مرتبطة بالتراث الشعبي وهي هواية تعودنا عليها ولا نستطيع التخلي عنها”.
يقول الفارس الليبي محمد القماطي “هناك شعور بالقوة والحرية، وتشعر كأن لديك شيئا مميزا، كما تعبّر الفروسية عن قيمة إنسانية أهمها الأخلاق الحسنة والكرم والشجاعة”، مضيفا أن الفروسية بمثابة همزة الوصل بين القبائل، وقدّم مثالاعن ذلك التصاهر بين فرسان ليبيا وتونس.
ويتابع حديثه “الفروسية تقوي الروابط بين شعوب المغرب العربي (ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا) من خلال الشعور المتصل بالتاريخ المشترك”.
الفارس لتونسي علي بن صالح غريبي (82 عاما) بدأ عشقه لركوب الخيل منذ عام 1949، عندما كان في السابعة من عمره، حيث نشأ في فترة الاستعمار الفرنسي (1881 – 1956)، وشأنه شأن أبناء منطقة “جلاص” شهد ملاحم خلال مقاومة الاستعمار.
ويذكر الفارس أنه تم تكليفه بين عامي 1953 و1954، بحمل السلاح والمؤونة إلى الثوار في الجبال، خلال معارك التحرير.
ويذكر الفارس الطاهر بن علي بن قاسم الغريبي(88 عاما) أنه بعد الاستقلال كان ضمن 300 فارس توجهوا من “بوحجلة” إلى قصر قرطاج (حوالي 200 كلم) على صهوات الجياد، لاستقبال أول رئيس للجمهورية التونسية؛ الحبيب بورقيبة سنة 1955.
لكن ما يثير استياء الفارس “الطاهر”، هو أنه لم يستطع أن يورّث أولاده وأحفاده الفروسية، لكونهم لم يهتموا بها، فنمط الحياة المتسارع ووسائل الترفيه المعاصرة جعلتاهم يعزفون عن الفروسية دون أن يدركوا قيمتها.
ومن بين الفائزين في سابق الفروسية، الفتى عزيز الرمضاني (16 عاما) الذي حل في المرتبة الأولى، وسبق مدربه حامد الحامدي الذي حل في المرتبة الثانية، وكلاهما لا يمتلكان خيولا، وإنما ينشطان في مركز خاص للفروسية.
ويقول الفتى التونسي، إنه يأمل أن يجد الاهتمام والدعم اللازمين ليواصل ممارسة هواية ركوب الخيل المولع بها.
“مغرب عربي واحد” شعار رفعه المهرجان المغاربي للفروسية، هدفه كما يقول يوسف الصيداوي، مدير المهرجان، “أن تكون الحدود بين دول المغرب العربي حدودا تقنية، وتأكيد أن الشعبين العربي والمغاربي شعب واحد، يحمل الهموم نفسها والأحلام ذاتها والتاريخ الواحد والقيم المشتركة، فالحدود هي مجرد حدود وهمية”.
ويضيف الصيداوي “إن فنون الفروسية تقرّب الشعوب”، معتبرا “أن الفنون البصرية هي اللغة المشتركة بين الشعوب العربية والعالم حيث تتجاوز الفوارق بين الحضارات والثقافات كما أنها آلية للتفكير والتعايش المشترك، فمن خلال فن الفروسية تمتد جسور التواصل والتقارب والتعارف بين الثقافات”.
والصيداوي فنان مسرحي، يعبّر فوق خشبة المسرح عن هموم الناس ومشاغلهم، لذا يعتبر الفارس “حامل رسالة وحامل أحلام الناس، كما يتحلى بخصال إنسانية وحضارية”.
الخيول في تونس
يضمّ قطاع الخيول في تونس، حسب الأرقام الرسمية، حوالي 5 آلاف حصان عربي أصيل، وأكثر من 20 ألفا من الخيول البربرية، إضافة إلى حوالي ألف حصان إنكليزي.
وتعتبر الخيول “العربية الأصيلة” و”البربريّة” وخيول “مقعد” -نسبة إلى منطقة “مقعد” الجبلية (شمال غرب البلاد)- من أبرز سلالات الخيول المميزة في تونس اليوم.
وتنتشر في تونس أيضا تربية الخيول “العربية البربرية” (ناتجة عن تلاقح بين الخيول العربية والبربرية) وبشكل أقلّ “الإنكليزية الأصلية” و”العربية الإنكليزية” (ناتجة عن تلاقح بين الخيول العربية والإنكليزية).
ويقول أنس العنابي، أستاذ الطب البيطري، إن تونس والجزائر والمغرب الأقصى هي المهد الأصلي للخيول البربرية وأن تربية هذا النوع من الجياد بالدول المذكورة تعود إلى أكثر من ألف عام قبل الميلاد.
ويقول مؤرخون إن استعمال الخيول البربرية ازدهر في عهد إمبراطورية “قرطاج” (الاسم القديم لتونس) التي تأسست عام 814 قبل الميلاد حيث تم الاعتماد عليها في الزراعة والتنقل والتجارة والحروب.
واعتمدت جيوش القائد العسكري القرطاجي الشهير “هانيبال” (ولد في 247 ق م وتوفي في 183 ق م) على الخيول البربرية لغزو شمال أفريقيا. وقد ركب “هانيبال” وجيوشه البحر بالخيول البربرية واستعملوها في زحفهم على أسبانيا وفرنسا وسويسرا وإيطاليا.
وتمتاز الخيول البربرية برشاقتها وقوتها وسرعتها وقدرتها على تحمّل الإجهاد والعطش لمسافات طويلة والسير في المناطق الجبلية الوعرة. ويعتبر هذا النوع من الخيول المنافس الأول في سباقات التحمّل للجياد العربية الأصيلة كما يعدّ من الأحصنة سهلة الاستعمال للركوب وللفروسية.
على المستوى العالمي تعتبر تونس من أهم الدول المصدّرة للخيول العربية الأصيلة نحو أوروبا (فرنسا وألمانيا وإيطاليا…) والدول العربية (ليبيا والجزائر والمغرب والخليج).
وأكسبت الخيول العربية الأصيلة تونس شهرة عالمية. وقال الفرنسي بيار هنري مالك إسطبلات “السورو” في فرنسا والمتخصص في تربية الخيول العربية الأصيلة في تصريحات شهيرة “ذهبنا إلى أمكنة أخرى (لشراء خيول عربية أصيلة)… ولكننا نعود دائما إلى تونس حيث نجد الأحصنة الأصيلة حقا”.
وقد أهدى الباي “حمودة باشا” الذي حكم تونس بين 1770 و1814 ثمانية خيول عربية أصيلة إلى ملك فرنسا لويس الخامس عشر.
وقال أنس العنابي إن “الخيول العربية الأصيلة التونسية تمتاز عالميا بنقاوة السلالة” وأن “أغلب الجياد الفائزة في المسابقات العالمية للخيول العربية الأصيلة تنحدر من أمهات تونسية”.
ودخلت الخيول العربية الأصيلة إلى تونس مع الفتح الإسلامي عام 670 ميلادية عندما زحفت جيوش القائد الإسلامي “عقبة ابن نافع”برّا على مدينة القيروان (160 كلم جنوب العاصمة تونس) التي تحولت في وقت لاحق إلى قاعدة عسكرية انطلقت منها حملات الفتح الإسلامي نحو الجزائر والمغرب وأسبانيا وأفريقيا السوداء.
إلا أن نقطة انطلاق تنظيم وتسجيل إنتاج الخيول العربية في البلاد تعود إلى عام 1881 مع بداية الاستعمار الفرنسي (1881-1956) عندما ورّد مستعمرون فحلا و4 فرسات عربية أصيلة من سوريا إلى تونس.
ويعيش في منطقة “مقعد” الجبلية (شمال غرب تونس) صنف من الخيول يوصف بالنادر ويحمل اسم هذه المنطقة. وتمتاز خيول مقعد بقصر قامتها (لا يتجاوز ارتفاعها مترا و30 سنتيمترا) وقوّة قوائمها ومهارتها في تسلق الجبال الوعرة.
وأظهرت دراسات أنجزتها المدرسة العليا للطب البيطري بمدينة سيدي ثابت في تونس أن خيول مقعد تمثل “فصيلة أصلية فريدة” من نوعها و”إرثا جينيا نادرا”. وشارف هذا النوع من الخيول على الانقراض إثر الحرب العالمية الثانية بفعل ما طالها من عمليات التصدير والتهجين والذبح.
ويقول خبراء الفروسية إن خيول مقعد بقامتها القصيرة ملائمة تماما للراغبين حديثا في تعلم الفروسية وللعب الأطفال إذ يستطيع راكبها التماسك جيدا فوق صهوتها.
وتؤثث الخيول -وخاصة الخيول العربية الأصيلة- عديد الفقرات ضمن المهرجانات والتظاهرات الثقافية والرياضية والسياحية في تونس.
وتشتمل هذه المهرجانات على مسابقات وعروض في الفروسية وترويض الخيول وعلى مسابقة طريفة يتم خلالها اختيار ملكة جمال الأفراس إضافة إلى أمسيات شعرية وغنائية موضوعها الجواد العربي الأصيل!!

1